Monday 14 February 2011

Abeer Esber

السينمائيون ودمشق
"بحثاً عن المكان الغائب"

كان سينمائياً، جاداً، التقينا ودعاني لحضور فيلم أعجبه
في لقاء أول، تقاربت رؤيتنا بسرعة.. بسهولة تناولنا مواضيع تهمّه و تهمّني.. سينما، أدب، فوتوغراف، إضاءة، رقص، نساء ومدن! دعاني للعرض ووافقت
- أريد رأيك.. -بحماس طلب رأيي!
-حسناً..
في ليلة ممتدة، وطعام طيب المذاق تناولناه في بيت عتيق، تحول مطعما.. تحدثنا طويلاً، بكثافة وعمق تناولنا كل المواضيع. هي ليلة جميلة، تسكعنا في طرقات باب توما، في طرقات دمشق العتيقة، والأحياء الممتلئة نوستالجيا وحنين غادر لعمارة هائلة، جميلة، ومهيمنة..
حضرت الفيلم..!
مرة أخرى دمشق.. سينمائي سوري آخر، ودمشق.. دمشق الحارات، والأزقة، والبحرة، والياسمين، والنارنج، والمسدسات، والمخمسات، والعرائش والقطط الناعسة! استفزيت، تناقشنا مجدداً، وقال بهدوء وحجة لا يمكن دحضدها
هو فيلم يؤسس لذاكرة المكان، قال مدافعاً! وأنا قلت (الفيلم مثقل، مشلول بذاكرة المكان)
ذاكرة المكان
تعبير قدسي ممنوع من الانتهاك، محافظ عليه حتى التعفن! تملكك المفردة، تضلّك اللغة، تضطر أن تخشغ أمام سحر البيان، وهيمنة، وقدسية تلك اللفظة، وحتى لا تبدو عديم الحساسية، منعدم الفنيّات، جاف العاطفة! تحترم رغبة صديقك السينمائي.. وتتركه لوحده، لتأملاته، وتهويماته.. فهو
" يحب السينما التي تؤسس لذاكرة المكان"!!
هو فيلم ذاكرة فعلا! السيناريو الذي كتبه يقول كل الحكاية، يحكي حديث ذاكرة، حكاية مكان آخر، كرس نفسه حامٍ له، ولقيمه الجمالية.. كرّس نفسه حامٍ لدمشق، المدينة العريقة ذات البيوت التي ستنقرض من شجع التجار الذين سيحولون بيوتها إلى مطاعم.. روح بكائّة ، عاطفية، نواحة! هو السينمائي الذي لم يسكن سوى عشوائيات تلك المدينة، وبأفضل الأحوال ضواحيها، يدافع عن عمارتها النابذة، وذاكرة بيوتها الحجرية، وبحراتها، وياسمينها وال أوه لالااه..
فقد احتلته بهيمنتها، وضلال سحرها، وقوة مفاهيم شكلها الصوري، المورّث..
لكني بلحظة إخلاص، ولا تعصب سألتُ نفسي سؤالا آخر: لمَ أجزع من رغبة صديقنا صاحب المشروع السينمائي، بالمحافظة على المكان الدمشقي العتيق، والانتماء للمكان الدمشقي الساحر الجمال؟ لمَ يحيرني، ويثير حنقي، وفضولي أن نرغب بالانتماء للجمال والحفاظ عليه، والمطالبة بتحنيطه، وحجزه في حالة تسمى الذاكرة؟
ثم استدعيت من "ذاكرتي " القصة التالية، التي ألهمتني بعضاً من إجابة..
كانت كاتبة هذه السطور مرة في باريس، أعرق عواصم الأرض وأكثرها كمالاً.. أذكر وصولي إلى أزقتها وحاراتها، وباراتها، ولياليها الغير منتهية، كانت عاصمة سياح، تكب عن أرصفتها آلاف البشر من كل الجنسيات، دون أن تبالِ، أو يتغير في إيقاعها شيء، لكن الدعية التي هي أنا، خبرت مرافقيها من الفرنسيين: "أنني أغار على عراقة هذه المدينة من السياح المستعجلين الذين لا يفهمون نكهة المدينة وأصالتها، وروعة معمارها، وبهاء زهورها، ونظافة أزقتها و.. إلخ
أصبحت ملاحظتي نكتة،"أنا الغيورة، صاحبة الحس الجمالي" كان تعليقي المغالي نكتة مضحكة تلقى في وجهي من الفرنسيين أنفسهم، عند كل اضطهاد تمارسه المدينة وسكّانها ضدي، أنا الطالبة، الفقيرة، الغريبة، العربية، الفائضة عن المكان، الدعية، الغيورة، الحساسة! وتتوالى الصفات النابذة من المركز، حتى الضواحي، من الشارع حتى الميترو، من المطعم حتى الرصيف.. وفهمت كل شيء، تعلمت الدرس الأقسى..
باريس التي لم تظهر بشكلها السياحي إلا في أفلام الأمريكيين، وظهرت في أفلام الفرنسيين كما هي، بفقرها، وبشاعة بيوتها، وبردها ، ورطوبة أبنيتها،علمتني سينماها، كما علّمتني الحياة دروسي الأقسى!
كلما اضطهدتك الأمكنة، نبذتكَ، اقتربتَ منها، وحاولت أن تحصّل منها القبول، فتكرسها، تكرسها بأخطائها، وتقدم أوراق اعتمادك لديها، بأنك الحامي، المحب، الموافق، المبارك! تخاف النفي، فتكرس بذل المنبوذ، أخطاء الأمكنة، لأنك الغريب، الغريب الذي لا يمون على مكانه، ولا ينتمي حقيقة للمكان، فينصّب نفسه حامٍ للمكان..
وبالمقابل فالمواطن الطبيعي، المنتمي بغير تبجح ولا ادعاء، يتصرف، كما تصرف الرئيس الفرنسي ميتيران! بروح انتماء حقيقية، أقر ميتران، وأصر ميتران ، أن تسير باريس بعمارتها، خطوات هائلة تجاه الحداثة والألفية الثالثة، فكانت منطقة "الديفانس" الزجاجية، الباردة "الريبوتية" ،المقابل الأكثر عنجهية، واختلافا،ً و تطرفاً لباريس الشانزيلزيه وقوس نصرها الحجري الحنون..
هكذا يتصرف أصحاب المكان في أمكنتهم عندما يمونون، ويحبون، وينتمون.. إنهم يتجرأون على الأمكنة، يفتتونها، يدرسونها، يقدمونها للحياة بروح جديدة، ويعبرون بها الأزمنة إلى المستقبل!
لكن هذا ما لم يحصل في دمشق، وفي أفلام سينمائي دمشق، كل هذا لم يحصل مع سكّانها، سينمائيها، وروائيها، وتشكيليها، مدعي الحب من قرويين مهاجرين إليها، وساكنيها من المدن الأخرى.. نبذتهم المدينة طويلا، فطالبوا بتكريسها! رمتهم إلى ضواحيها، فتغنوا بأزقتها المعتمة، ومداخل بيوتها المركزية الضيقة، المغمة! دمشق المعتاشة على كمال معمارها العتيق حتى النهاية.. ظل فنانوها وسكانها يمتصون سكر الأمكنة العتيقة، وبيصقون علقم العشوائيات، ويتغنون.. بلوحاتهم، وسينماهم، ورواياتهم وموسيقاهم بأماكن لم تفتح لهم ، إلا عندما أصبحت بيوتها مطاعم، وعمارتها، مقاه..!
ظلت دمشق تقبع كأيقونة وصورة مثالية لمكان تسكنه النوستالجا، ويقبع في الذاكرة..
مكان لم يناقشه أحد، لم يقترح له بديلا جماليا، أو حتى بديلا مكملاًً، فقد خافوا منها، وخافوا انتقادها، وفكفكتها، مناقشتها، وخوض حديث قلب وعقل، ووجدان.. خافوا منها، تنحوا حتى لا يوصموا بتهمة التخريب، لأنهم ظلوا غرباء عنها، فأبقتهم غرباء عنها.. في أفلام صرفت عليها ميزانية العام السينمائي الحالي، المحتفي بدمشق، غابت دمشق مرة أخرى، وظهرت الردة، الردة في الرؤية، والعتق المتحفي، المتخفي تحت عمارة سياحية، لم يعد يحتفي بها أحد سوى غرباء المدينة وسياحها، اختفت دمشق الحقيقة والواقع من مخيلة سينمائي سوريا، كما تعودت أن تختفي في أفلام معظمهم، ضاعت مرة أخرى فرص الطزاجة، وحداثة الفكر، والنوعية العالية المنتمية للحياة، ببحث عن أجوبة في خمسينيات القرن الماضي!
أين حقيقة المكان في السينما السورية، أين دمشق في السينما السورية؟ وكيف حكيت دمشق؟ هل ما ظهر في أفلام مدينتنا العتيدة هو الحقيقة؟
في احتفالية دمشق عاصمة للثقافة، احتفى الجميع بالذاكرة، واختفت الحقيقة، اختفى الحاضر.. أحيل بدوره للذاكرة!
فلم يتجرأ أحد منا، نحن سكان تلك المدينة العريقة، على مناقشة المكان، تفكيك المكان، هجاءه، كراهيته، تحليله، أو حتى نقده، نقد عمارته،أو حتى تقديم البديل؟
فلماذا تم التعامل مع مدينة دمشق سينمائياً بتلك الروح المأّلهة، الرافضة للمسائلة؟ لماذا لم تتم مناقشة العمارة، والحياة الدمشقية بمنجزها الحالي، المنقسم ما بين البيت السياحي المندثر، الذي أصبح إما مطاعم، أو لوكشينات مرتجلة لمسلسلات الطهور، وحفلات الطلاق ، والزواج؟ أو القسم الآخر المغبر بفوضاه، وإسمنته، وبشاعة عمارته، وانعدام خدماته..
هل خاف سينمائيونا من نبذ آخر، وتهم أخرى، فكرسوا، ما لا يجب أن يكّرس؟ وارتدوا إلى خمسينيات القرن الماضي بحثاً عن أجوبة.. بحثاً عن دمشق؟



عبير اسبر

No comments:

Post a Comment