Saturday 28 August 2010

الأنترنت‮ ‬ ودعاة العزلة

كلمة

الأنترنت‮ ‬ ودعاة العزلة

31/07/2010 12:27:56 م

د‮. ‬صبري حافظ

لابد من مجموعة من التحفظات قبل طرح هذه القضية التي كان لمؤتمر دارهام الذي نظمته الدكتورة أنيسة الداودي فضل تعريفي بها‮. ‬وهي أنني أقدر أهمية هذا الوسيط الجديد،‮ ‬الانترنت،‮ ‬وأسعي لتسخيره لخدمة الثقافة العربية،‮ ‬كما يبدو من مشروع مجلة‮ (‬الكلمة‮) ‬الطموح،‮ ‬ومن رغبته في الإبقاء علي شعلة الاستنارة العقلية التي رادت مسيرة الثقافة العربية متقدة ومضيئة‮. ‬فهي كأي وسيط يمكن استخدامه لخدمة الثقافة وتوسيع هامش الحرية والحراك المدني فيها،‮ ‬ويمكن أيضا إساءة استخدامة من قبل المؤسسة أو الأفراد علي السواء‮. ‬لكن مواجهة إساءة الاستخدام لايجب أن تتم من خلال الرقابة والمنع،‮ ‬وإنما من خلال إدارة حوار موسع حول الضوابط والأهداف والمعايير ودرجة الشفافية المتوفرة في كل موقع‮. ‬خاصة وأن الإنترنت من أكثر الوسائط شفافية ومن أكثرها قابلية للقياس المعياري‮. ‬بعد هذه التحفظات أود أن أطرح علي القراء وعلي‮ (‬أخبار الأدب‮) ‬معا هذا الموضوع الذي أحب أن تدير حوله‮ (‬أخبار الأدب‮) ‬حوارا ثقافيا موسعا في الحياة الثقافية والفكرية في مصر‮. ‬وأن تستطلع آراء قطاعات ثقافية وفكرية واسعة حوله،‮ ‬ومدي حاجتنا إليه في هذا الزمن الردئ الذي تزداد فيه عزلة مصر ويتراجع دورها‮. ‬
وقد طرح هذا الموضوع في ساحة المؤتمر باحث يوغوسلافي شاب اسمه إيفان بانوفيتش،‮ ‬يعد رسالة للدكتوراه حول الموضوع في جامعة أكسفورد في بحثه الذي كان عنوانه‮ «‬ويكيبيديا مصري بين الحصافة السياسية والتمرد السوسيولغوي‮». ‬والويكيبيديا في عجالة قصيرة هي مشروع معرفي ضخم،‮ ‬أردا أن يستخدم وسيط الإنترنت في تثوير دوائر المعارف وتحويلها إلي شيء شعبي‮. ‬ليس فقط من خلال إتاحتها بالمجان علي الانترنت،‮ ‬ولكن أيضا من خلال إتاحة الكتابة فيها لكل من هب ودب‮. ‬فقد كان لدوائر المعارف،‮ ‬من دائرة المعارف البريطانية الشهيرة وحتي دائرة المعارف الإسلامية،‮ ‬هيبة ورهبة ومعايير وضوابط لاتقل بأي حال من الأحوال عن تلك التي لابد من توفرها للقواميس،‮ ‬فلا يدخل في محرابها إلا الحقائق الصلدة التي تعرضت للفرز والتمحيص‮. ‬كما كان اقتناؤها خاص بنخبة النخبة،‮ ‬وأذكر أنه حينما بدأ الإعلان عن بيع دائرة المعارف البريطانية في مصر في ستينيات القرن الماضي،‮ ‬كان ثمن نسختها يتجاوز قيمة الراتب السنوي لشاب تخرج من الجامعة وحصل علي وظيفته الأولي،‮ ‬وكان الإعلان يتضمن أسماء من اقتنوا منها نسخة في مصر كنوع من التباهي بطبيعة مقتنيها الذين يشكلون ناديا معرفيا يطمح أي مثقف للانتماء إليه‮.‬
لهذا كانت الويكبيديا ثورة معرفية حررت دوائر المعارف من نخبويتها،‮ ‬ولكنها أيضا أطلقت لكل من هب ودب،‮ ‬ولأصحاب الذوات المتضخمة الفرص لعرض الزائف مع الحقيقي‮. ‬ولأن حديثنا هنا ليس عن فوائد الوكيبيديا وعيوبها بل مضارها،‮ ‬وهو أمر قد أعود إليه فيما بعد،‮ ‬وإنما عن بحث إيفان بانوفيتش في المؤتمر،‮ ‬أشير إلي أن مشروع الوكيبيديا توسع بسرعة في كل لغات العالم بما فيها اللغة العربية‮. ‬فهناك الويكبيديا العربية،‮ ‬ولكن البحث كان عن ويكبيديا مصري،‮ ‬التي تستخدم العامية المصرية وتروج لها‮. ‬وتحاول أن تبني قاعدة‮ «‬معرفية‮» (‬وأضع كلمة معرفية بين أقواس،‮ ‬لأن الأمر له علاقة بالأيديولوجيا أكثر من علاقته بالمعرفة‮) ‬بالعامية المصرية،‮ ‬وتطرح تلك العامية في مواجهة العربية وفي تضاد‮ ‬غير مطلوب معها‮. ‬فقد كانت النماذج التي عرضها الباحث اليوغوسلافي مضحكة ومثيرة للشفقة،‮ ‬أثارت ضحك الكثيرين في قاعة المؤتمر،‮ ‬وإن كان شاغل الباحث هو دلالاتها السوسيولغوية‮. ‬
وسأضرب مثلا واحدا لضيق المساحة،‮ ‬فبدلا من اعتماد هذه الويكبيديا مصري لكلمة‮ «‬المثليّة‮» ‬للشواذ جنسيا،‮ ‬لاحظ اهتماماتها في انتقاء مداخلها المعرفية،‮ ‬اختارت بدلا منها كلمة‮ «‬المش هتروسيكسوالية‮» ‬وهو اصطلاح ليس فيه من العامية المصرية‮ ‬غير أداة النفي،‮ ‬وإن ظهرت هنا وقد دخلت عليها أداة التعرف،‮ ‬فأصبحت شيئا آخر وهو‮ «‬المش‮» ‬الذي يؤكل بدوده‮. ‬أما المصطلح الأصلي‮ «‬هيتروسيكسوال‮» ‬فهو مفردة انجليزية أو فرنسية ليس له أي علاقة بالمصرية،‮ ‬ولا يعرفة من المصريين،‮ ‬وأغلبهم من العوام،‮ ‬إلا أصحاب الثقافات الأجنبية،‮ ‬والاهتمامات الأجنبية ومن بينها هذه‮ «‬المش هيتروسيكسوالية‮». ‬أم أن هذا هو دود المش الذي يريد المسئولون علي الموقع تمريره؟ وهو أكثر خبثا من دود المش العادي البسيط‮. ‬
ما أود طرحة علي القراء والمثقفين المصريين هنا هو‮: ‬هل نحن في حاجة إلي مثل هذا الموقع،‮ ‬والدعوة المضمرة فيه؟ هل تستفيد منه الثقافة المصرية في حالتها الراهنة؟ هل تساهم دائرة المعارف تلك في إرهاف معرفة المصريين بالعالم،‮ ‬أم في تكريس عزلتهم عن محيطهم العربي،‮ ‬وعن لغتهم العربية ذاتها؟ هل يمكن أن تثري هذه‮ «‬الويكيبيديا مصري‮» ‬معرفتنا بأنفسنا أو بمصر؟ أم ترانا هنا بإزاء صياغة جديدة للهوية الوطنية المصرية؟ أهو مشروع معرفي أم مشروع أيديولوجي يتخفي في إهاب المعرفة؟ ثم السؤال الأهم‮: ‬ما هو تأثير هذا كله علي اللغة العربية؟ وعلي وضع مصر في محيطها العربي؟ هذه الأسئلة وغيرها كثير هي ما أود أن ندير حوله حوارا واسعا ومعمقا،‮ ‬يشكل ضوابطه الفكرية والمعرفية لتمحيص ما يدور في هذا الموقع الغريب‮.‬

No comments:

Post a Comment