كلمة
الأنترنت ودعاة العزلة
31/07/2010 12:27:56 م
د. صبري حافظ
لابد من مجموعة من التحفظات قبل طرح هذه القضية التي كان لمؤتمر دارهام الذي نظمته الدكتورة أنيسة الداودي فضل تعريفي بها. وهي أنني أقدر أهمية هذا الوسيط الجديد، الانترنت، وأسعي لتسخيره لخدمة الثقافة العربية، كما يبدو من مشروع مجلة (الكلمة) الطموح، ومن رغبته في الإبقاء علي شعلة الاستنارة العقلية التي رادت مسيرة الثقافة العربية متقدة ومضيئة. فهي كأي وسيط يمكن استخدامه لخدمة الثقافة وتوسيع هامش الحرية والحراك المدني فيها، ويمكن أيضا إساءة استخدامة من قبل المؤسسة أو الأفراد علي السواء. لكن مواجهة إساءة الاستخدام لايجب أن تتم من خلال الرقابة والمنع، وإنما من خلال إدارة حوار موسع حول الضوابط والأهداف والمعايير ودرجة الشفافية المتوفرة في كل موقع. خاصة وأن الإنترنت من أكثر الوسائط شفافية ومن أكثرها قابلية للقياس المعياري. بعد هذه التحفظات أود أن أطرح علي القراء وعلي (أخبار الأدب) معا هذا الموضوع الذي أحب أن تدير حوله (أخبار الأدب) حوارا ثقافيا موسعا في الحياة الثقافية والفكرية في مصر. وأن تستطلع آراء قطاعات ثقافية وفكرية واسعة حوله، ومدي حاجتنا إليه في هذا الزمن الردئ الذي تزداد فيه عزلة مصر ويتراجع دورها.
وقد طرح هذا الموضوع في ساحة المؤتمر باحث يوغوسلافي شاب اسمه إيفان بانوفيتش، يعد رسالة للدكتوراه حول الموضوع في جامعة أكسفورد في بحثه الذي كان عنوانه «ويكيبيديا مصري بين الحصافة السياسية والتمرد السوسيولغوي». والويكيبيديا في عجالة قصيرة هي مشروع معرفي ضخم، أردا أن يستخدم وسيط الإنترنت في تثوير دوائر المعارف وتحويلها إلي شيء شعبي. ليس فقط من خلال إتاحتها بالمجان علي الانترنت، ولكن أيضا من خلال إتاحة الكتابة فيها لكل من هب ودب. فقد كان لدوائر المعارف، من دائرة المعارف البريطانية الشهيرة وحتي دائرة المعارف الإسلامية، هيبة ورهبة ومعايير وضوابط لاتقل بأي حال من الأحوال عن تلك التي لابد من توفرها للقواميس، فلا يدخل في محرابها إلا الحقائق الصلدة التي تعرضت للفرز والتمحيص. كما كان اقتناؤها خاص بنخبة النخبة، وأذكر أنه حينما بدأ الإعلان عن بيع دائرة المعارف البريطانية في مصر في ستينيات القرن الماضي، كان ثمن نسختها يتجاوز قيمة الراتب السنوي لشاب تخرج من الجامعة وحصل علي وظيفته الأولي، وكان الإعلان يتضمن أسماء من اقتنوا منها نسخة في مصر كنوع من التباهي بطبيعة مقتنيها الذين يشكلون ناديا معرفيا يطمح أي مثقف للانتماء إليه.
لهذا كانت الويكبيديا ثورة معرفية حررت دوائر المعارف من نخبويتها، ولكنها أيضا أطلقت لكل من هب ودب، ولأصحاب الذوات المتضخمة الفرص لعرض الزائف مع الحقيقي. ولأن حديثنا هنا ليس عن فوائد الوكيبيديا وعيوبها بل مضارها، وهو أمر قد أعود إليه فيما بعد، وإنما عن بحث إيفان بانوفيتش في المؤتمر، أشير إلي أن مشروع الوكيبيديا توسع بسرعة في كل لغات العالم بما فيها اللغة العربية. فهناك الويكبيديا العربية، ولكن البحث كان عن ويكبيديا مصري، التي تستخدم العامية المصرية وتروج لها. وتحاول أن تبني قاعدة «معرفية» (وأضع كلمة معرفية بين أقواس، لأن الأمر له علاقة بالأيديولوجيا أكثر من علاقته بالمعرفة) بالعامية المصرية، وتطرح تلك العامية في مواجهة العربية وفي تضاد غير مطلوب معها. فقد كانت النماذج التي عرضها الباحث اليوغوسلافي مضحكة ومثيرة للشفقة، أثارت ضحك الكثيرين في قاعة المؤتمر، وإن كان شاغل الباحث هو دلالاتها السوسيولغوية.
وسأضرب مثلا واحدا لضيق المساحة، فبدلا من اعتماد هذه الويكبيديا مصري لكلمة «المثليّة» للشواذ جنسيا، لاحظ اهتماماتها في انتقاء مداخلها المعرفية، اختارت بدلا منها كلمة «المش هتروسيكسوالية» وهو اصطلاح ليس فيه من العامية المصرية غير أداة النفي، وإن ظهرت هنا وقد دخلت عليها أداة التعرف، فأصبحت شيئا آخر وهو «المش» الذي يؤكل بدوده. أما المصطلح الأصلي «هيتروسيكسوال» فهو مفردة انجليزية أو فرنسية ليس له أي علاقة بالمصرية، ولا يعرفة من المصريين، وأغلبهم من العوام، إلا أصحاب الثقافات الأجنبية، والاهتمامات الأجنبية ومن بينها هذه «المش هيتروسيكسوالية». أم أن هذا هو دود المش الذي يريد المسئولون علي الموقع تمريره؟ وهو أكثر خبثا من دود المش العادي البسيط.
ما أود طرحة علي القراء والمثقفين المصريين هنا هو: هل نحن في حاجة إلي مثل هذا الموقع، والدعوة المضمرة فيه؟ هل تستفيد منه الثقافة المصرية في حالتها الراهنة؟ هل تساهم دائرة المعارف تلك في إرهاف معرفة المصريين بالعالم، أم في تكريس عزلتهم عن محيطهم العربي، وعن لغتهم العربية ذاتها؟ هل يمكن أن تثري هذه «الويكيبيديا مصري» معرفتنا بأنفسنا أو بمصر؟ أم ترانا هنا بإزاء صياغة جديدة للهوية الوطنية المصرية؟ أهو مشروع معرفي أم مشروع أيديولوجي يتخفي في إهاب المعرفة؟ ثم السؤال الأهم: ما هو تأثير هذا كله علي اللغة العربية؟ وعلي وضع مصر في محيطها العربي؟ هذه الأسئلة وغيرها كثير هي ما أود أن ندير حوله حوارا واسعا ومعمقا، يشكل ضوابطه الفكرية والمعرفية لتمحيص ما يدور في هذا الموقع الغريب.
Back to Basics: Virtually Islamic blog
5 years ago
No comments:
Post a Comment