Tuesday, 22 March 2011

Here is a sample of eArabic in music

LIsten to the Yamani Rap music on youtube




http://www.youtube.com/watch?v=0TY1cf7JCjA&feature=player_embedded#at=48

An Article I read and liked

الجابري والاعراب نظرة ورأي



رباح حسن الزيدان
الحوار المتمدن - العدد: 3313 - 2011 / 3 / 22
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
راسلوا الكاتب-ة مباشرة حول الموضوع


الأعتداد بالعقل ليس ببعيد عن العرب بأنفسهم المتأثرة بالبيئة المقفرة التي أحاطت بهم .
فلا يوجد أمام العربي سوى الصحراء والسماء التي تدفعه الى النظر والتفكر .
يقول أبن المقفع عن العرب بأنهم : "اهل بلدٍ قفرٍ ووحشة من الأنس , أحتاج كل منهم في وحدته الى فكره ونظره وعقله" . وهو انما قال ذلك ليدل به على ان العرب لهم الأفضلية على الأمم .
فهم لا ينقلون العلم عن أحد , انما يعتمدون جميعاً على ومضات بصائرهم , أي أن العربي لا يحيا في الاشياء بل يحيا معها . وهو في أنفصاله هذا عن الأشياء , تراه يلحظها ويدون صفاتها كما يرصد الصانع عدته , لا كما يؤاخي الصديق صديقه .
لذلك كان الاعرابي هو صانع العالم عند الجابري . فالعربي يحب لغته الى درجة التقديس , ويعتبر السلطة التي لها عليه تعبيراً ليس فقط عن قوتها بل عن قوته هو أيظاً .
وتتحدد هوية العربي بفصاحته أيظاً وليس بمجرد العقل . ومن الناحية التاريخية , فأت أول عمل علمي منظم مارسه العقل العربي هو جمع اللغة العربية ووضع قواعد لها .
وقد جُمعت مادتها في عصر التدوين من أفواه الأعراب الذين بقوا الى ذلك العصر منعزلين لم يتعكر صفو لسانهم بالاختلاط بسكان المدن والحضر .
لذا فأن لسان العرب لابن منظور وهو أضخم موسوعة في اللغة العربية , لا ينقل الينا على ضخامة حجمه , اسماء الاشياء الطبيعية والصناعية ولا المفاهيم النظرية , وانواع المصطلحات التي عرضها عصره , القرن السابع والثامن للهجرة .
ذلك أن الثمانين الف مادة لغوية التي يضمها قاموس ابن منظور لا تخرج عن دائرة حياة ذلك الأعرابي الذي كان بطل عصر التدوين . ويحدثنا التاريخ ان بعض الاعراب قد أحترفوا بيع بضاعتهم من الكلام , وان بعضهم الاخر رحلوا الى البصرة أو الكوفة للاقامة فيها كرواة للغة .
من كل ذلك يميز الجابري صفتين للغة العربية : لا تاريخيتها وطبيعتها الحسية . تعني الاولى ان اللغة العربية تعلو على التاريخ ولا تستجيب لمتطلبات التطور . اما الثانية , فأن جمع اللغة من الاعراب دون غيرهم , معناه جعل عالم هذه اللغة محدوداً بحدود عالم أولئك الاعراب . ولما كان هؤلاء يحيون حياة الفطرة والطبع , أي يحيون حياة حسية أبتدائية , فلقد كان لا بد من ان ينعكس ذلك على تفكيرهم وبالتالي على اللغة التي جمعت منهم وقيست بمقاييسهم . ويقول الجابري ان الكلمات العربية ذات أصول في الطبيعة وان مبدأ الصحة فيها قد تعين من قبل الفطرة لا من قبل العرف والعادة .
وكما ان الاعرابي هو صانع العالم العربي ومصدر اللغة الفصيحة , فإنه ايظاً مصدر العقل العربي في التأمل والنظر . فالاعرابي حر ولا يقبل السلطة من غيره , واصبح العقل حراً يتقيد بالحقائق التي يكتشفها ويعدّها مطلقة . وقد ساعدت البيئة البدوية المفتوحة على الارض والسماء على هذا الاطلاق بسبب تهيئتها للظروف الملائمة للتأمل الفكري .
ويرى الجابري أن ما يميز العقل بوصفه عقل الثقافة العربية الاسلامية هو أن العلاقات داخله تتمحور حول ثلاث اقطاب : الله , الانسان , الطبيعة .
والطبيعة هي التي تقوم بدور المعين للعقل البشري على أكتشاف الله وتبين حقيقته . ففي الثقافة العربية الاسلامية يطلب من العقل أن يتأمل الطبيعة ليتوصل الى خالقها : الله .
وهناك في الثقافة اليونانية الاوروبية يتخذ العقل من الله وسيلة لفهم الطبيعة أو على الأقل ضامناً لصحة فهمه لها .

Tuesday, 15 February 2011

شباب الرواية والرؤية عبير إسبر ـــ خيري الذهبي

شباب الرواية والرؤية عبير إسبر ـــ خيري الذهبي

بعض النصوص الروائية تفتنك حال قراءتها ليس لندرة أحداثها, ولا لجمال شخصياتها, ولا لإبهار معمارها, وإنما لنضرة التناول, وطزاجة التعامل, وعفرتة اللغة الشابة الجديدة غير المثقلة بالقواعد والتقاليد والجزالة, والعتق, وربما كان هذا أول ما لفت نظري في رواية الكاتبة الشابة عبير أسبر المسماة (لولو) والحائزة على الجائزة الأولى للرواية في مسابقة وزارة الثقافة.‏

لولو, وتكاد تمسك بمفاتيحها من اسمها هذا غير المألوف في الرواية السورية التي عودتنا فيها التقاليد القائمة على الجزالة اللغوية والقضايا الكبرى, والنضّال لتحقيق أشياء خارجة عن عالم الجمال ـ الأدب, الداخلة في عالم التعبوية السياسية.‏

ولولو هو اسم لبطل الرواية خالد الذي يفاجأ بالمجموعة المصرية القادمة لتصوير فيلم عن فلسطين والتي تعثر على موقعها التصويري في قريته المسماة الحصن, ولا أعرف إن كان هناك قرية سورية اسمها الحصن إلا إن كانت المنسوبة إلى قلعة الحصن, أو حصن الأكراد أو الكراك ديه شيفا لييه في اسمها الأوربي.‏

المهم خالد هذا الشاب الغارق في حب ابنة قريته وردة والراسب في الثانوية وغير المكترث كثيراً للعلم إذا به يصطدم بعالم آخر مختلف, إنه عالم العاملين في السينما, وقراءاتهم للعالم وللشخوص, وللحياة وللأدب, وحريتهم في الحركة والفهم والحب, والحياة, والحركة في صدامه الجديد مع عالم القرية السكوني, الملتصق بالطبيعة, زراعة حصاد, رعي دواب, حب يؤدي إلى زواج, فإنجاب, فاستمرار لدورة الطبيعة.‏

يختار جماعة الفيلم أرضاً لأهل خالد ويجعلونها موقعاً للتصوير ويصبح خالد الذي سيسمونه لولو دليلهم ومعرّفهم ووسيطهم إلى القرية ويصبحون دليله إلى قراءة أخرى للحياة, ومغامراتها وخروجها عن المألوف والطبيعي ـ من الطبيعة ـ‏

تقول ريم لخالد الذي يتدله في حبها, ويتخلى من أجلها عن وردة التي وشم اسمها على ذراعه على قلب وسهم وكلمة وردة إلى الأبد: اعرف نفسك تكتبها له بعدة لغات, ويحاول خالد الذي غيرت مجموعة السينما من مفاهيمه ورؤيته للحياة أن يعرف نفسه حسب ما طلبت منه ريم التي تقدم نفسها له بقولها: عمري 35 سنة, حاول تنسى الرقم ده يا لولو, ضحكت ممازحة إياه من إحدى الانقشاعات النادرة في مزاجها المعتل, خمسة وثلاثون عاماً.‏

تصغر أمه بأربع سنوات, وتكبر وردة ـ وردة وشم إلى الأبد ـ بعشرين عاماً... ثم تكمل: ما بحبس الجواز, رجاله من غير جواز أحلى.‏

هذا الاصطدام بالمفاهيم, والاصطدام باللغة, فالمجموعة السينمائية مصريون, يتحدثون طيلة الوقت باللهجة المصرية التي سيتحول خالد إلى مجاراتهم بالحديث بها.‏

هذا اللعبة اللغوية في الانتقال من الفصحى الخفيفة, إلى المصرية, إلى السورية... هذه الطراوة في التعامل مع الحدث, ومع الشخصيات ومع الحوادث الكبرى, قضية فلسطين, الأميركيون والعراق, الإشكالات السياسية المعاصرة إلى آخره.. كل ذلك في رواية صغيرة مما يسمى بالنوفيلا, فالرواية كلها لا تتجاوز العشرين ألف كلمة.‏

ينتهي تصوير مشاهد الفيلم, يرحل الطاقم, يبقى خالد وعليه أن يتابع حياة ريفية سكونية لم يعد من الممكن تحملها والقبول بها وهكذا يصبح عليه أن يكمل تعليمه, وأن يرحل إلى دمشق, وأن يبدأ ـ كما يعتقد تشكيل حياته من جديد.‏

في رواية عبير إسبر هذه التي فازت بالجائزة الأولى والتي لم يحاول النقد إضاءتها واحدة أخرى من مشاكل الحياة الأدبية في سورية والتي أعتقد أن الأوان قد آن للتخلص منها وإعادة الحياة الطبيعية إلى الأدب بعيداً عن الشللية تحت أي اسم كان.‏

رواية لم تحاول لبس ثوب أكثر فضفضة من مقاس جسم كاتبتها لم تحاول الصراخ بعيوب أعلى من حنجرة كاتبة شابة جداً, لم تحاول التمحك بالقضايا الكبرى معبراً لتمرير نصها.... بل كان أجمل ما لفت نظري فيها إخلاصها لعمرها, لقضايا جيلها, وللغة جيلها الشاب....

Monday, 14 February 2011

Abeer Esber

بحثا عن سماء أعلى
الإبداع وسؤال الهوية

في عالم بات التعصب يعصف بأجوائه العكرة أصلا، تبدو هيمنة أسئلة الهوية أكثر إلحاحاً من ذي قبل، خاصة عند ملاحظتنا الحذرة للرغبات السائدة حاليا في استخدام لغوي شرس، منتج في ذهنية ملتوية، تفجر كلمات قوية الوقع، كالاجتثاث، والإلغاء ، والإقصاء وإلى ما آخر هذه الأفعال من تبعات تتهم بها الدول الأخرى ونبرأ منها "نحن" ، اتهامات جاهزة في معظم الأحيان، تجد صداها في دول باتت تتبنى العنف الجسدي والمعنوي والحلول المغلقة الأقواس في خطابها السياسي بشكل عام، وانغلاقا أشدا وتوترا مضطردا في خطابها الثقافي بشكل خاص، حيث ينشغل هذا الخطاب في الغالب بهموم زائفة، تهوّل وتسدل عليها غلالات من الخوف، وتكلل بتيجان من الرعب، تعنى بإشكالية الهوية "هويتنا"، تلك التي لم تحسم بعد بين عربية أو إسلامية،وتسمع همسات من قبيل فرعونية، فينيقية إلخ.. وتتجاذبنا مثل العادة تيارات سياسية بأبعاد ثقافية تبحث في شروط الهوية، وتناقش الانتماءات علمانية كانت أو سلفية أصولية، قومية أو قطرية، وتحمل تلك التجاذبات بين طياتها العنيفة، والهادئة أو حتى الخفية منها، خشية جوفاء على وجه حضارتنا المندثر كما أجمع الكل..!! الكل يسوّق للنهاية، لسادوم وعمورة أخريين، لموات قابع بين جدران الأمة..! بحجة ضعف الانتماء وفقدان الهوية، التي كما أسلفنا، لم تحدد من هي؟ وما هو شكلها؟ وما هي أولوياتها، لكنهم يجدون دوما الوصفة السحرية، بإحساس كلي دوغمائي، يفرض رأيا واحدا، حلا واحدا، ويقدم مقترحا وحيدا للحياة، بعد أن اتهم "الآخر" بكل الصفات الشائنة وشيٌطن هذا "الآخر" ليشل وجها كان لا يخشى سفوره..!! إلى أن أتى هؤلاء بمفردات تنبأ بالرعب، بالتلاشي، والاندغام والذوبان في الآخر الشرير أو المفترس "للحق" والجمال وكل أصالة صفاتنا النقية المورثات، تراثية الهوى، المنفصلة حكما عن "الحاضر الفاسد"، وعن حركة الإبداع في بقاع أخرى من هذا العالم، إن اعترف بمشروعية وجوده أصلا..!!
"فساد الحاضر" فزاعة يعلقها هؤلاء بوجه كل من يتجرا على مساءلة الماضي، محاكمته، أو وضعه في ميزان معتدل ليقول الحقيقة، لا لينتقم، بل ليفهم سيرورة التاريخ، وما آلت إليه الأمور في واقعنا المعيش، المساءلة حق ينكره الجميع تقريبا، بحجج تنتصر دوما، للأبطال الخارقين، للرموز، للنوستالجيا وأوهام الحنين للماضي الذي انقضى، والذي يصرون على إحيائه بتكرار أعمى وروح ببغائية..!
في حاضرنا البائس، الفاقد للسحر، بسبب غياب الحداثة الحقيقية، الحداثة المنجزة داخل ديناميكية الحياة، حياتنا "نحن"!، تعطى المشروعية ويمنح السلام الآمن لكل نتاج، يستنسخ الماضي ومألوفية حكايا امتص زخمها عبر سنين مضت، بينما ترفع رايات التحذير والتخوين لكل عمل يتنسم روحا مغايرة، باحثة ، مدققة، محاكمة، أو حتى غير أبهة بوجوه التاريخ المحنطة، المنتهية على حدود الموت.يستقبل التجريب بعالمنا العربي بكل خفة ممكنة، ليست تلك الخفة الرشيقة المسترخية ، المتسامحة بالطبع ، بل تلك الهازئة ، الوقورة، اللامبالية أو المكفرّة، لأي روح مجددة تلمع في سمائنا المنخفضة حتى الاختناق!
يسود الخوف بدءا من اللغة نفسها.. "اللغة" المنعكس الأكثر صدقا للعقلية السائدة حاليا، إذ اختفت كلمات بكاملها، كالخلق وخلاّق من معجم الصفات التي طالما ألحقت بالنتاج الفني، وحتى أنها لم تعد تترجم بشكلها الحقيقي و الصحيح لغويا، وحل فعل أبدع أو الاسم إبداع بدلا من CREATE أو CREATION المستخدمتين بكثرة وبدون قلق في اللغة الإنكليزية، اختفت صفة مثل معبودي أو معبودتي من قاموس الغزل الحالي ، خوفا من مقاربة البعد الديني للكلمات وليس لسقوط تلك الكلمات أو الصفات جماليا أو اندثارها، بينما كان عنوان فيلم مثل"معبودة الجماهير" في السبعينات من القرن الماضي، يملأ ساحات مصر والوطن العربي دون حرج، والآن للأسف ولم يعد أحدا يتجرا أن يصف أحدا آخر، بنبييّ أو إلهي إلى آخر هكذا كفر ولو على سبيل المزاح..!! بينما يوصف أي شخص بالإنكليزية على أنه أيقونة الموضة،أيقونة الجمال.. وتلصق صفة الأيقونة بأي شخص مهما كانت ميزته و ما يقدمه للمجتمع..!
ثم تطبع شركة مثل ماكنتوش كتابا، وهو دليل لمستخدمي الكمبيوتر تسميه " بماكنتوشBIBLE " على سبيل الاستعارة أو المجاز، الذي لم يعد أحد منا يتجرأ على استخدامهما بحق أي معتقد يشبه أو يماثل لو بقليل، معتقدنا عن الكتاب المقدس أو القرآن الكريم..!
لماذا..؟ لأن فنانينا لا زالوا غير قادرين على التنحي بأفكارهم، وانتاجاتهم عن أوهام إنتمائية، قومية، دينية ، أو أيدولوجية والانتماء للفن وحده، للكون أو الإنسانية، وهو انتماء مجرد من كل تبعية، سوى تبعية الفن، وحتى لو حاولوا فإنهم يقابلون بعواصف عاتية من الرفض والتخوين والإرهاب بالفعل أو بالكلمة..! لم يستطع أي شاعر مهما علت قامته مقاربة نصوص القرآن الكريم أو الحكايا في الكتاب المقدس، فكريا أو فلسفيا أو جماليا، بعيدا عن كون تلك النصوص ، نصوصا "إلهية" إلا بصعوبات بالغة نتجت عنها الهوائل، ويحاكم موسيقي لمجرد الغناء، ويطالب برأس فلان ويهدر دم علان ، ويطلق آخر من زوجته، واللائحة لا تنتهي من التهديد، والرعب بحق شاعر هنا ، وفيلسوف لا أدري أين.. إلى آخر لائحة مفتوحة الأسماء، تجيّر ضد كل من يحاول أن يقف على عتبات جديدة للأسئلة ، ليناقش أو يفكر برؤى مغايرة
وبعيدا عن البعد الديني وحساسية الوضع الآن وسوء الفهم الحاصل، سأركز على المقاربة اللغوية مع العلم أنها غير مفصولة عن المقاربة السيسيولوجية، الكاشفة لكارثية الوضع الفكري، والاجتماعي الحاصلين الآن..! لكني سأكمل بمنحى آخر.. بإمكان أي منتج للفن، في أي بقعة من هذا العالم أن يقدم مقترحات لغوية ، أن يلعب باللغة ويستخدم مفردات ينتجها الشارع، حتى لو كانت مليئة بأخطاء نحوية أو إملائية كلغة الأفروأميركان ،أو الأفرو يوربيان أو الأسبانية المتحدثة في أميركا اللاتينية مثلا، التي باتت بعيدا عن الأدب والشعر، توضع كما هي في معاجم تلك اللغات، أي اللغات الحية بطبيعة الحال! وتمارس تلك الحيل من دون أن يشوب ضمير فاعلها أية شائبة، ومن دون أن تلصق به كل التهم المكفّرة، ومن دون أن يصبح اللغوي أو الأديب " المخرب، الهدام لإرث الشعوب!! بينما بالمقابل يعتذر ويبرر أي روائي لدينا، استخدامه بعضا من اللغة المحكية في نتاجه، حتى لو كانت تلك المحكية نابضة وتحمل كل سمات الروعة، والإيجاز، والاختزال، والموسيقى، ببساطة كل سمات العبقرية!! لغاية الآن لا يعترف للشعر الآخر، أو الشاعر الآخر بقيمته التي يستحق، ويستثنى من مجالس العمالقة، وأقصد طبعا شعراء اللغة المحكية، حيث يذكرون بإعجاب بارد و متحفظ، على الرغم من تجذّر نتاجهم في العقل الجمعي لمنطقتنا الناطقة بالعربية، مشكلين خزان وجدانها الأغنى! وإبعادا لسوء الفهم! "أنا لا أريد بأي حال من الأحوال استبدال اللغة العربية الفصحى بالأخرى المحكية ! لكن أطالب فقط بقليل من المتنفس، لإيجاد فضاء أرحب، وسماء أعلى للتحليق باللغة التي بدأت تنكمش وتتقلص مع تقلص الفضاء المتاح بدل أن تتفجر حياة وغنى..!"
إن السائد الآن، للأسف محاولة جادة لقهر اللغة، وبالنتيجة المخيلة طبعا، عبر معجم كامل يرفد لغة التخويف بمفردات بغاية البلاغة والإقناع ، لغة تقهر المخيلة، بدل إطلاقها في عوالم أكثر تعددية وثراء، بحجة الحرص على ذاك الشبح الذي جمّلناه بكل أرواحنا جهلا حينا، وبرياء ومحاباة للظروف المضطربة حينا آخر، تبنيناه موقفا إلى أن أصبح كالغول البشع، دكتاتوري الهيئة، والفعل، حضناه طويلا كالمعتقد ، إلى أن افترس كل نبض طازج للحياة فينا، مسخ دعوناه الانتماء، الهوية، وكل تلك الصفات التي تسّوق للعزل القصري خارج الحياة، وتدعو للعيش داخل قوقعة أفقها مسدود، وسمائها واطئة، بدعوى الحفاظ على الهوية والانتماء إلى مكان وزمان وتاريخ وقضايا الأمة، وتكريس الماضي بأخطائه، وتبني مفاهيم، وجدت حلولها في الأمس المنصرم، وذلك عبر إجهاض أي حس نقدي تجاه مسائل التراث، التاريخ..
إن إبداء الموافقة الغير مشروطة حول الماضي، هي مفتاح المواطنة والانتماء الحقيقيين في هذه الأمة..! وإلا فإن تهم كالتغريب والتخريب والأمركة ستلاحق أي باحث عن مقترح مختلف لحياة مختلفة..! فأين نحن من الحياة الآن؟! وتحت أي سماء نعيش..؟؟

Abeer Esber

السينمائيون ودمشق
"بحثاً عن المكان الغائب"

كان سينمائياً، جاداً، التقينا ودعاني لحضور فيلم أعجبه
في لقاء أول، تقاربت رؤيتنا بسرعة.. بسهولة تناولنا مواضيع تهمّه و تهمّني.. سينما، أدب، فوتوغراف، إضاءة، رقص، نساء ومدن! دعاني للعرض ووافقت
- أريد رأيك.. -بحماس طلب رأيي!
-حسناً..
في ليلة ممتدة، وطعام طيب المذاق تناولناه في بيت عتيق، تحول مطعما.. تحدثنا طويلاً، بكثافة وعمق تناولنا كل المواضيع. هي ليلة جميلة، تسكعنا في طرقات باب توما، في طرقات دمشق العتيقة، والأحياء الممتلئة نوستالجيا وحنين غادر لعمارة هائلة، جميلة، ومهيمنة..
حضرت الفيلم..!
مرة أخرى دمشق.. سينمائي سوري آخر، ودمشق.. دمشق الحارات، والأزقة، والبحرة، والياسمين، والنارنج، والمسدسات، والمخمسات، والعرائش والقطط الناعسة! استفزيت، تناقشنا مجدداً، وقال بهدوء وحجة لا يمكن دحضدها
هو فيلم يؤسس لذاكرة المكان، قال مدافعاً! وأنا قلت (الفيلم مثقل، مشلول بذاكرة المكان)
ذاكرة المكان
تعبير قدسي ممنوع من الانتهاك، محافظ عليه حتى التعفن! تملكك المفردة، تضلّك اللغة، تضطر أن تخشغ أمام سحر البيان، وهيمنة، وقدسية تلك اللفظة، وحتى لا تبدو عديم الحساسية، منعدم الفنيّات، جاف العاطفة! تحترم رغبة صديقك السينمائي.. وتتركه لوحده، لتأملاته، وتهويماته.. فهو
" يحب السينما التي تؤسس لذاكرة المكان"!!
هو فيلم ذاكرة فعلا! السيناريو الذي كتبه يقول كل الحكاية، يحكي حديث ذاكرة، حكاية مكان آخر، كرس نفسه حامٍ له، ولقيمه الجمالية.. كرّس نفسه حامٍ لدمشق، المدينة العريقة ذات البيوت التي ستنقرض من شجع التجار الذين سيحولون بيوتها إلى مطاعم.. روح بكائّة ، عاطفية، نواحة! هو السينمائي الذي لم يسكن سوى عشوائيات تلك المدينة، وبأفضل الأحوال ضواحيها، يدافع عن عمارتها النابذة، وذاكرة بيوتها الحجرية، وبحراتها، وياسمينها وال أوه لالااه..
فقد احتلته بهيمنتها، وضلال سحرها، وقوة مفاهيم شكلها الصوري، المورّث..
لكني بلحظة إخلاص، ولا تعصب سألتُ نفسي سؤالا آخر: لمَ أجزع من رغبة صديقنا صاحب المشروع السينمائي، بالمحافظة على المكان الدمشقي العتيق، والانتماء للمكان الدمشقي الساحر الجمال؟ لمَ يحيرني، ويثير حنقي، وفضولي أن نرغب بالانتماء للجمال والحفاظ عليه، والمطالبة بتحنيطه، وحجزه في حالة تسمى الذاكرة؟
ثم استدعيت من "ذاكرتي " القصة التالية، التي ألهمتني بعضاً من إجابة..
كانت كاتبة هذه السطور مرة في باريس، أعرق عواصم الأرض وأكثرها كمالاً.. أذكر وصولي إلى أزقتها وحاراتها، وباراتها، ولياليها الغير منتهية، كانت عاصمة سياح، تكب عن أرصفتها آلاف البشر من كل الجنسيات، دون أن تبالِ، أو يتغير في إيقاعها شيء، لكن الدعية التي هي أنا، خبرت مرافقيها من الفرنسيين: "أنني أغار على عراقة هذه المدينة من السياح المستعجلين الذين لا يفهمون نكهة المدينة وأصالتها، وروعة معمارها، وبهاء زهورها، ونظافة أزقتها و.. إلخ
أصبحت ملاحظتي نكتة،"أنا الغيورة، صاحبة الحس الجمالي" كان تعليقي المغالي نكتة مضحكة تلقى في وجهي من الفرنسيين أنفسهم، عند كل اضطهاد تمارسه المدينة وسكّانها ضدي، أنا الطالبة، الفقيرة، الغريبة، العربية، الفائضة عن المكان، الدعية، الغيورة، الحساسة! وتتوالى الصفات النابذة من المركز، حتى الضواحي، من الشارع حتى الميترو، من المطعم حتى الرصيف.. وفهمت كل شيء، تعلمت الدرس الأقسى..
باريس التي لم تظهر بشكلها السياحي إلا في أفلام الأمريكيين، وظهرت في أفلام الفرنسيين كما هي، بفقرها، وبشاعة بيوتها، وبردها ، ورطوبة أبنيتها،علمتني سينماها، كما علّمتني الحياة دروسي الأقسى!
كلما اضطهدتك الأمكنة، نبذتكَ، اقتربتَ منها، وحاولت أن تحصّل منها القبول، فتكرسها، تكرسها بأخطائها، وتقدم أوراق اعتمادك لديها، بأنك الحامي، المحب، الموافق، المبارك! تخاف النفي، فتكرس بذل المنبوذ، أخطاء الأمكنة، لأنك الغريب، الغريب الذي لا يمون على مكانه، ولا ينتمي حقيقة للمكان، فينصّب نفسه حامٍ للمكان..
وبالمقابل فالمواطن الطبيعي، المنتمي بغير تبجح ولا ادعاء، يتصرف، كما تصرف الرئيس الفرنسي ميتيران! بروح انتماء حقيقية، أقر ميتران، وأصر ميتران ، أن تسير باريس بعمارتها، خطوات هائلة تجاه الحداثة والألفية الثالثة، فكانت منطقة "الديفانس" الزجاجية، الباردة "الريبوتية" ،المقابل الأكثر عنجهية، واختلافا،ً و تطرفاً لباريس الشانزيلزيه وقوس نصرها الحجري الحنون..
هكذا يتصرف أصحاب المكان في أمكنتهم عندما يمونون، ويحبون، وينتمون.. إنهم يتجرأون على الأمكنة، يفتتونها، يدرسونها، يقدمونها للحياة بروح جديدة، ويعبرون بها الأزمنة إلى المستقبل!
لكن هذا ما لم يحصل في دمشق، وفي أفلام سينمائي دمشق، كل هذا لم يحصل مع سكّانها، سينمائيها، وروائيها، وتشكيليها، مدعي الحب من قرويين مهاجرين إليها، وساكنيها من المدن الأخرى.. نبذتهم المدينة طويلا، فطالبوا بتكريسها! رمتهم إلى ضواحيها، فتغنوا بأزقتها المعتمة، ومداخل بيوتها المركزية الضيقة، المغمة! دمشق المعتاشة على كمال معمارها العتيق حتى النهاية.. ظل فنانوها وسكانها يمتصون سكر الأمكنة العتيقة، وبيصقون علقم العشوائيات، ويتغنون.. بلوحاتهم، وسينماهم، ورواياتهم وموسيقاهم بأماكن لم تفتح لهم ، إلا عندما أصبحت بيوتها مطاعم، وعمارتها، مقاه..!
ظلت دمشق تقبع كأيقونة وصورة مثالية لمكان تسكنه النوستالجا، ويقبع في الذاكرة..
مكان لم يناقشه أحد، لم يقترح له بديلا جماليا، أو حتى بديلا مكملاًً، فقد خافوا منها، وخافوا انتقادها، وفكفكتها، مناقشتها، وخوض حديث قلب وعقل، ووجدان.. خافوا منها، تنحوا حتى لا يوصموا بتهمة التخريب، لأنهم ظلوا غرباء عنها، فأبقتهم غرباء عنها.. في أفلام صرفت عليها ميزانية العام السينمائي الحالي، المحتفي بدمشق، غابت دمشق مرة أخرى، وظهرت الردة، الردة في الرؤية، والعتق المتحفي، المتخفي تحت عمارة سياحية، لم يعد يحتفي بها أحد سوى غرباء المدينة وسياحها، اختفت دمشق الحقيقة والواقع من مخيلة سينمائي سوريا، كما تعودت أن تختفي في أفلام معظمهم، ضاعت مرة أخرى فرص الطزاجة، وحداثة الفكر، والنوعية العالية المنتمية للحياة، ببحث عن أجوبة في خمسينيات القرن الماضي!
أين حقيقة المكان في السينما السورية، أين دمشق في السينما السورية؟ وكيف حكيت دمشق؟ هل ما ظهر في أفلام مدينتنا العتيدة هو الحقيقة؟
في احتفالية دمشق عاصمة للثقافة، احتفى الجميع بالذاكرة، واختفت الحقيقة، اختفى الحاضر.. أحيل بدوره للذاكرة!
فلم يتجرأ أحد منا، نحن سكان تلك المدينة العريقة، على مناقشة المكان، تفكيك المكان، هجاءه، كراهيته، تحليله، أو حتى نقده، نقد عمارته،أو حتى تقديم البديل؟
فلماذا تم التعامل مع مدينة دمشق سينمائياً بتلك الروح المأّلهة، الرافضة للمسائلة؟ لماذا لم تتم مناقشة العمارة، والحياة الدمشقية بمنجزها الحالي، المنقسم ما بين البيت السياحي المندثر، الذي أصبح إما مطاعم، أو لوكشينات مرتجلة لمسلسلات الطهور، وحفلات الطلاق ، والزواج؟ أو القسم الآخر المغبر بفوضاه، وإسمنته، وبشاعة عمارته، وانعدام خدماته..
هل خاف سينمائيونا من نبذ آخر، وتهم أخرى، فكرسوا، ما لا يجب أن يكّرس؟ وارتدوا إلى خمسينيات القرن الماضي بحثاً عن أجوبة.. بحثاً عن دمشق؟



عبير اسبر

Abeer Esber

عن دمشق.. أو ما بقي منها
خالتي أم سمعان طلبت حضوري..
في الطريق المتعِب من دمشق إلى حمص، والطريق المفرح من حمص إلى الساحل.. لم يغب عن بالي الكتاب الشهير لغاستون باشلار "جماليات المكان" طوال الطريق المؤدي إلى بيتها.. بيت خالتي أم سمعان، راجعت بدقة شروط المسكن المقدس.. حيث امتلك البيت الذي تسكنه "أم الأمهات" كل المفردات المؤسسة للبيت الأول.. امتلك المركز وثبته بالشجرة المباركة، السدرة أجمل الأشجار وأكثرها إثارة لخيالات الروح، الحجر الأزرق الصلد الذي احتجز بصمته المكان، وهيمن على صوت رنين جرس الكبش الأول، يقود قطيعه عائدا من البرية، امتلك منزلها درجاً صاعداً نحو وجه الآلهة الأكثر حنواً، يعلو باطراد حجرا على حجر صعوداً صعودا.. والباحة الدائرية المكشوفة كانت "الفضاء" المكثِف للطاقة الكونية، ظلت منذ استدارتها الكاملة تبعث رسائلها إلى الله الرحيم..
وصلت "باب جنة".. وصلت بيت خالتي أم سمعان.. رصت صفوف الكراسي الملتفة مثل حلزون، اجتمعنا نحن الصبايا حول حدث حمل نكهة عطرة، نكهة الأحمر الكرزي، وطعم حلاوته.. حلاوة الفرح، كنا نحتفل بزواج آخر بنات خالتي أم سمعان.. نورما.. جميلتها التي لم تحبذ ضيق الصفوف الإسمنتية في مدرسة الضيعة، ولم تحد انطلاقتها بكتب المدارس.. فتركت بكل وعي، العلم والجامعات، للفاشلات أمثالنا، القليلات الحظ ، القليلات الجمال.. وانطلقت مثل الغزالة البرية، تقطف العنب، وتشعل الأعراس رقصا وغناء.. إذا كان عرس نورما، صديقتنا، حبيبتنا..
في وسط الباحة، والأوكسجين الباذخ، والغيم القطني غرقنا بالجمال.. ما بين الأهازيج، وصياح الصبايا، وخفة ظلهن، وصوت الضحك الصداح.. زهت بيننا خالتي أم سمعان، اشتعلت عينيها ببريق الفخر، وشفافية الفراق..أعلنت بكبرياء فطرتها، بتجاعيد وجهها الجليلة، ببياض بشرتها الحليبية، وهيبة طلتها، أعلنت أم سمعان خبراً أسعدها حتى هطلت دموعها.. خبرتنا: عريس نورما شامي.. إجا من الشام ليتجوز.. ونورما بنتي رح تعيش معه بالشام.. بالكّباس!!
ثم ختمت الضحكة المحرجة بزغرودة ساندها الكل بزغردتها.. وأنا الوحيدة التي تسكن في الشام غصصتْ !!
نورما في الشام.. نورما في الكبّاس.. هي مجرد حكاية..
حكاية بسيطة،عتيقة.. حكاية الريف والمدن.. حكاية الفلاح وابن المدينة! حكايتنا مع الشام..
لن أعود إلى نورما الآن، فقصتها واضحة.. قصتها قصة النقيض.. الصدمة، والتأقلم.. الوفرة، وعسف الموارد.. المساحة والضيق.. الهواء القابل للتنفس، والسخام الملتصق بالروح.. الحجر والاسمنت المغبر.. العمارة البسيطة المقدسة.. والعمارة الشيطانية لجدران من بلوك وأسقف من ألواح التوتياء، نشأت مثل فطور لا تقهر، تكاثرت اعتباطاً على أرض مهدورة، بلا إنسانية.. بلا خدمات..

حسناً حسناً.. أرى النظرة المستسخفة في عيون قرائي.. أرى السخرية، والهزء من سذاجة الطرح، وبراءة التحليل المقتربة من الغباء.. أرى هزة الرأس المتسامحة في أحسن الأحوال، والفهم العميق لوعي الواعيين.. هي الضريبة أيتها الحاذقة! الضريبة التي علينا أن ندفعها كي نسكن مدننا، ونعيش المدنية! أرى واسمع كل شتيمة يطلقها كل متهم لي بتأليه الريف المغلق، والنزعة الخبيثة لتريف الأماكن، وتخريب المدن المفتوحة، أرى الرعب في نظرة كل من يقرأ عن الجمال المضلل، خائفا على وجه حضارته، من طرح ساذج يعلن ويدافع عن الريف، عبر تكريس تقاليد التريف على أهل المدن، وعراقة المدن، وحداثة المدن، وبهاء المدن.. وعشوائيات المدن.. مدننا.. لكن للحديث بقية، والحقائق ليست دوما سهلة بسهولة الحكي السهل..
في إحصائية اترك تقديرها لوعيكم.. أعلن الخبراء أنه بحلول العام 2020 سيعيش نصف سكان القاهرة مثلاً ضمن الأحياء المخالفة.. ضمن العشوائيات!!
بكل الأحوال نعود لمدننا المقدسة.. نعود للشام، للقاهرة، للجزائر، للرباط، لمراكش، لعمان لكل مدننا المسورة بأحزمنة من فوضى، نعود لعشوائياتها ونسأل سؤالا آخر..
لم تخيفنا الأبنية المرتجلة، لمَ ننتفض من بشاعتها، واعتباطيتها.. وتداخلها المتاهاتي، الشيطاني، واندغام وظائف زواريبها ما بين فسحات للتنفس والشرب، والغسيل والاستحمام والتبول..!! ما الذي تستطيع تلك الأشكال الموحدة، البلهاء، المتقشفة للأبنية تعريفه، تكريسه، تقريره، صنعه..؟؟ هل تشبه البيوت أصحابها.. لمَ يزعجنا الفقر.. وهل هو عيب..!! هل هو مخيف.. هل هو مهدد للسلم؟؟ للأخلاق؟؟ يفتقر للحدود الدنيا للإنسانية وشروطها..
على كل سنحكي حكاية.. حكاية تخصني..
كنت من زائرات حي الكبّاس الأشد إخلاصا!! في كشكول تحديدا.. منطقة عشوائية بامتياز على الرغم من تموضعها في قلب مدينة دمشق ، تقترب من حي عريق هو باب توما مثلا، من العباسيين، من جرمانا.. نعود للكباس.. لكشكول.. إذ لطالما هدرت غير نادمة، ساعات طوال أمضيتها ضاحكة، من حكايا لا تحصل إلا هناك.. بوجوه من السنغال، والدير، والساحل، وحمص.. كنا نمر وأصدقائي بخليط ألوان ولهجات، وروائح، ودكاكين يطل أصحابها من شبابيك الغرف نفسها.. دكاكين هائلة العدد، تبيع الكحول الرخيص، والدخان الوطني والمهرب، والفاكهة الأكثر رواجاً، تبيع الجبس، وفي أحسن الأحوال البطيخ الأصفر!! نمر شلة كبيرة بالناس، نسلم على الجميع.. حيث يجلس الجميع على المصطبة المرتفعة سنتمترات عن أرض الشارع الموحل، من المياه التي رشت أمام البيوت، وتركت برك وحل، يجلس الكل عليها وحولها، أباء وأبناء وأجداد.. صياح يملأ الفضاء، يقتسمون المساحة أمام الدور، يهربون من الحر ، من شوي الاسمنت لجلدوهم طوال النهار.. طوال سطوع الشمس، ينتظرون المغيب ويشربون المتة..
في منزل صديق، يمارس الأحلام مخلوطة بالصحافة.. أمضيت بصحبته أوقاتاً ممتدة.. استمتعت بكل ثانية مع الأصحاب المنفيين من منازلهم، من أبائهم، وقراهم، وأهلهم.. كنا نسهر طويلا على السطح المشترك الذي تقطنه خمس عائلات، بخمس غرف متراصة، وشباك لكل منها.. حمامهم مشترك، مطبخهم مشترك، مشاكلهم، صياحهم، وثوانيهم الأكثر حميمية.. بالطبع مشترك.. صديقي المدلل كان يسكن غرفته وحيدا، إلا عندما قررت الوالدة الرؤوم، زيارته فجأة لمراجعة طبيب، ويحكي صاحبنا حانقاً، باكيا، ضاحكا، كيف شاركه كل أهل الحارة معارفه الهامة.. الغير مطلوبة،الغير مطالب بها، تشاركوا بألوان ملابس أمه الداخلية التي لم يحلم حتى والده بمعرفتها، خاصة عندما طار سروالها وحط على السطح الملاصق لمنزله، فوق دش الجيران.. ويحكي الصديق عن عرض أمه المهان، ولون سروالها الداخلي الأبيض العريض المورد بالأحمر القاني!!
ويصيح شبه باكٍ: لك فضحتينا يا إمي.. طيب على القليلة سكري الشباك وقت بتلبسي، ما بيكفي طار الكلسون.. وتبكي الأم التي اعتادت على المساحة، و بيوت بلا أبواب.. وعيون تغض الطرف..
"شو بعرفني يا إمي والله ما انتبهت!! الله يقطعلك هالبيت ما أوحشه !!"
على السطح المشترك، الفضاء الوحيد المتاح، كنا نجلس متلاصقين، يدخن أصدقائي النرجيلة، وأشرب ما أشاء، بالقرب من الحبق الذي زرعته والدة صديقي في طشت غسيل قبل أن تغادر!!
كان الضحك ينبثق من كل معاناة يعيشها صديقنا، ونشمت بها نحن!!
بفلوكلورية تعاملنا مع معاناته، وبالواو.. من المكان الإكزوتيك، المتحرر، والجارات اللعوب، اللواتي لا يتوانين عن فعل ما لا يفعل عادة!! نحتفل ببساطة الأخلاق، بانفلات الأخلاق، وانتقامنا من تربية الأهل، والبرجوازيات العفنة، والقيم، والمعايير، والبريستيجات، والصح والخطأ، والذي يجوز ولا يجوز!!
نضحك من شلة زعران طالما تربصوا لصاحبنا بالشبريات، هزوؤا من كتبه، وشنطة اللاب توب التي يحملها فارغة!! وكيف ضربوه مرة أمام صديقة اصطحبها وحيدة إلى غرفته عندما كان لديه موعد "تن تنى.. تن تنى "!!
يحكي صديقنا بحنق عن معاناته مع أخلاقيات المكان التي لم يعتدها.. يحكي عن جيرانه الذين زرعوا سطحه دشات، وخزانات ماء، ومازوت.. يعبئونها، يصلحونها مطلين على غرفته وحياته وتفاصيله، يسيرون بملابسهم، أو بدونها، وأجسادهم المعروضة أينما شاؤوا، في أي ساعة شاؤوا..
نحن نضحك، وصديقنا يحمر مثل فجلة بهية.. نتابع الضحك، وننظر تجاهه، خاصة عندما أطل جار له من الشباك، نازعا البلورة المرمية في وجه الريح على عجل، في ليلة باردة كانونية، مصححاً معلومة في النقاش المحتدم بين شلتنا، عن تقصير الحكومة في حل مشكلة الكهرباء المقطوعة، وأزمة المازوت الماضية.. وقف الجار أمام الشباك، مزيحا الستارة، محاطا بإطار الشباك المخزوق الشبك، بثقل ظل لا يغتفر، ظل يفتي مطلا برأسه الأشعث مثل القرد، من الشبك المعدني، الذي لم يتسع لصلعته عندما سحبها متراجعا عندما أنهى فتواه الكارثية شاتماً الظروف الدولية والحصار الأميركي..
نحن نقهقه وصديقنا العتيد يغلي من انتهاك الخصوصية.. وينظر تجاهنا كي نفهم، ولا نفهم، ونتابع..
حسنا لا زلنا في الضحك.. خاصة عندما ستصل نورما إلى الكبّاس، قد تزورها خالتي أم سمعان، أو لا تفعل.. قد تضيّع سروالها، أو لا تضيعه.. قد تضحك، أو لا تضحك.. لكننا نبقى في السؤال الأول.. ما الذي يخيفنا من كل ما قلنا وحكينا، وشرحنا.. ما الذي يخيفنا من الفوضى، وسوء الخدمات، والانفلات، والفقر؟؟
حسنا لا إجابة لدي.. سؤالي أضعه بين يديكم..
أنا ضحكت.. ولأننا ضحكنا، لا يبقى لي سوى السؤال.. خاصة أننا نسينا في حمأة القهقهة أن نتكلم عن ثقافة مكان تبيح بلامبالاتها لواط الأطفال، وتُمارس فيها كل أنواع الرذائل، وتسهّل فيها كل أشكال الدعارة، ويُنتج فيها العنف والجريمة مضاعفين، والتطرف الفكري والديني والاجتماعي أضعافا مضاعفة، نسينا التحدث عن الضيق، والأماكن الخانقة المكتظة، نسينا الحديث عن شراسة أنواع من الكلاب، مزقت بعضها عندما جُمعت في مساحة ضيقة، وازدادت شراسة مع ازدياد عددها، وضيق فضاءها المتاح..
ضحكنا ونسينا أن للعيش البشري شروطاً أخرى.. نسينا حديث الريف والمدينة فقد ضاعا الاثنان.. فُقدا الاثنان .. فُقد الجمال.. ضاعت الصفة، عجنت الأشكال والهندسة والعمارة بالقذارة والمجارير المفتوحة والكهرباء المقطوعة، وندرة مياه الشرب.. ضاعت المدن، وصفات المدن في خلطة بشعة مكونها الرئيسي والوحيد هو الفقر.. ونسأل مرة أخرى وأخيرة هل هو عيب.. هل الفقر عيب!!؟؟
للإجابة ندعو المهتمين للسكن ولو مؤقتاً على أطراف مدينتا الجميلة المسورة بالعشوائيات.. ندعوكم للسكن في حي الستة والثمانين العتيد.. وللحديث تتمة..
عبير اسبر

Thursday, 10 February 2011

شام معلف

تبحث عن الشام بعد كل هذا الطواف اليوم إذن دعنا نلحق تلك الحشود الملونة في أزقة دمشق القديمة ليس مطعم الوجبات السريعة الذي يعرفه الجميع أمهر من صنع صندويش ( الإسكالوب) في المنطقة العتيقة ـ ذاك الذي طرز واجهة المحل نقوش بيزنطية حديثة بالدهان الأصفر الفاقع دون حتى أن يدري أنها زخارف من تلك الحقبة بالذات؟! لا يهم طالما أنه يحرك السياحة في البلد ،بل أقصد الشام داخل السور العمارة.. القيمرية.. ، القنوات،.. باب توما باب رسول السيد المسيح الذي جاب هذه الأزقة مع القديسين والعلماء والرحالة والفاتحين على مر التاريخ .. الباب بقي مفتوحاً على مصراعيه ، بينما أقف في منتصف الطريق أفكر باستعادة هؤلاء بصرياً على الأقل في خيالي ،معرضةً نفسي لخطر الدعس والفعس تحت أقدام المتسربلين من كل مكان أجانب وعرب متأجنبين، مباشرةً إلى البارات ذات الطراز الشرقي وأماكن البوب في البيوت القديمة ومحلات الشاورما محلات( الدفيديات) المقرصنة البطاطا المشوية على الطريقة التركية وبيت (الغوفر) البلجيكي وسط الشارع المستقيم ... لا أستطيع أن أحدد إلى أي درجة يجوع بها بعضهم حتى يمرون من أمام سبيل الماء هذا دون أن يقرأ أحداً أنه بني على روح( سيف الدين جقمق)..

تبحث عن شامك بعد كل هذا التعب ولا يتسنى لك الكسل في التكية السليمانية لأنه منذور لراحة السياح ، ولهذا تم وضع هذا السور الحديدي القبيح بينك وبين مشهد القباب المتناغمة مع شكل الأقواس فوق أعمدة الأروقة السور الحديدي الذي وضعته وزارة السياحة بينك أنت ابن البلد وبين البحرة الواسعة في قلب صحن التكية فقط من أجل راحة السياح .. فأنت من أهل البلد .. لكن مهلاً أنت الأن في باب شرقي فعن أي بلد نتحدث ؟! !
شام محل مطعم يعرفه معظمنا يعزف ألحان الجاز بينما تجلس على كرسي مصنوع في إيطاليا وتفكر بتناول وجبة (كوردون بلو ) ، ليست شام محل محي الدين ابن عربي الذي جاب الأزقة باحثاً عن النور ، الكبريت الأحمر الذي لم يزل له في كل حي وزاوية مجلس علم وتصوف مع سائر فقهاء دمشق.. الأمر يبدو كما لو كانت ثمة قطيعة تاريخية رهيبة بين الشامين ..

من جهة أخرى ألا يتوجب على صاحب المكان الأثري في الشام احترام تلك الخصوصية الروحية دون أن يغرس أمام الزائر أرجيلة بمعسل التفاحتين وكأس شاي ليبتون كي يستمتع بنفث طعم الأستشراق على الجدران الأصيلة لأنه يدفع الفاتورة باليورو أو بالدولار؟!.. لكن مقترحاً مغايراً بأن تبقى هذه البيوت على حالها للتأمل والإستكشاف أو القراءة سيبدو مشنقة إقتصادية بالنسبة لأصحابها مع عدم اكتراث واضح من قبل الجهات المسؤولة ليس بعد أن فكر وزير الثقافة باستغلال ساحة المتحف الوطني لإقامة الأعراس والموالد وحفلات الطهور المحلية ..!
في المقابل ثمة تشريعات خاصة تمنع العبث وابتذال التاريخ كما يحدث في دمشق اليوم و تم اعتمادها من قبل المجلس العالمي للمعالم والمواقع الأثرية خاصةً اذا ماكانت ذات أهمية مرتبطة بشكل مباشر أو ملموس بالأحداث أو التقاليد أو الأفكار أوحتى الأعمال الفنية ، وعلى هذا أتمنى أن لاتزور لجنة كهذه البيوت التي صارت مطاعم خمس نجوم ويشاهدوا بأم العين كيف يسكب الزيت الساخن في المجاري الصحية التي ربما بدورها تعود إلى العهد الروماني ؟! وكيف يخدمهم( بيت جبري) بشكل لائق وعصري للغاية ..
في المقابل هل يفكر العربي الذي يتجول بمتحف اللوفر بنصب أركيلته العربية أمام وجه فرانسيس الأول للفنان الشهير (تيتان) كنوع من الغربة المضادة ليست كتلك التي علمونا إياها في كتب القومية المدرسية بل غربة ما تشبه رحيل الدمشقي الأخير من طلعة القشلة ...
أخيراً يبحث أحدهم الذي يرغب بتحويل بيت خالته المتوفاة منذ زمن بعيد في باب توما إلى محل فلافل وحمص عن اسم لافت للمطعم وبعد نظرة بانورامية إلى هذا الخليط العولمي الهجين وعربات السوزوكي المحملة بالباذنجان والكاتشاب مع من أصابتهم لوثة الشرق الجديد .. وأقترح عليه بأن يسميه ( السرفيس) بينما أتكئ على حائط متهالك من العصر البرونزي ..أفكر بأغنية شرقية جداً .... غريب الدار علي جار ...