بحثا عن سماء أعلى
الإبداع وسؤال الهوية
في عالم بات التعصب يعصف بأجوائه العكرة أصلا، تبدو هيمنة أسئلة الهوية أكثر إلحاحاً من ذي قبل، خاصة عند ملاحظتنا الحذرة للرغبات السائدة حاليا في استخدام لغوي شرس، منتج في ذهنية ملتوية، تفجر كلمات قوية الوقع، كالاجتثاث، والإلغاء ، والإقصاء وإلى ما آخر هذه الأفعال من تبعات تتهم بها الدول الأخرى ونبرأ منها "نحن" ، اتهامات جاهزة في معظم الأحيان، تجد صداها في دول باتت تتبنى العنف الجسدي والمعنوي والحلول المغلقة الأقواس في خطابها السياسي بشكل عام، وانغلاقا أشدا وتوترا مضطردا في خطابها الثقافي بشكل خاص، حيث ينشغل هذا الخطاب في الغالب بهموم زائفة، تهوّل وتسدل عليها غلالات من الخوف، وتكلل بتيجان من الرعب، تعنى بإشكالية الهوية "هويتنا"، تلك التي لم تحسم بعد بين عربية أو إسلامية،وتسمع همسات من قبيل فرعونية، فينيقية إلخ.. وتتجاذبنا مثل العادة تيارات سياسية بأبعاد ثقافية تبحث في شروط الهوية، وتناقش الانتماءات علمانية كانت أو سلفية أصولية، قومية أو قطرية، وتحمل تلك التجاذبات بين طياتها العنيفة، والهادئة أو حتى الخفية منها، خشية جوفاء على وجه حضارتنا المندثر كما أجمع الكل..!! الكل يسوّق للنهاية، لسادوم وعمورة أخريين، لموات قابع بين جدران الأمة..! بحجة ضعف الانتماء وفقدان الهوية، التي كما أسلفنا، لم تحدد من هي؟ وما هو شكلها؟ وما هي أولوياتها، لكنهم يجدون دوما الوصفة السحرية، بإحساس كلي دوغمائي، يفرض رأيا واحدا، حلا واحدا، ويقدم مقترحا وحيدا للحياة، بعد أن اتهم "الآخر" بكل الصفات الشائنة وشيٌطن هذا "الآخر" ليشل وجها كان لا يخشى سفوره..!! إلى أن أتى هؤلاء بمفردات تنبأ بالرعب، بالتلاشي، والاندغام والذوبان في الآخر الشرير أو المفترس "للحق" والجمال وكل أصالة صفاتنا النقية المورثات، تراثية الهوى، المنفصلة حكما عن "الحاضر الفاسد"، وعن حركة الإبداع في بقاع أخرى من هذا العالم، إن اعترف بمشروعية وجوده أصلا..!!
"فساد الحاضر" فزاعة يعلقها هؤلاء بوجه كل من يتجرا على مساءلة الماضي، محاكمته، أو وضعه في ميزان معتدل ليقول الحقيقة، لا لينتقم، بل ليفهم سيرورة التاريخ، وما آلت إليه الأمور في واقعنا المعيش، المساءلة حق ينكره الجميع تقريبا، بحجج تنتصر دوما، للأبطال الخارقين، للرموز، للنوستالجيا وأوهام الحنين للماضي الذي انقضى، والذي يصرون على إحيائه بتكرار أعمى وروح ببغائية..!
في حاضرنا البائس، الفاقد للسحر، بسبب غياب الحداثة الحقيقية، الحداثة المنجزة داخل ديناميكية الحياة، حياتنا "نحن"!، تعطى المشروعية ويمنح السلام الآمن لكل نتاج، يستنسخ الماضي ومألوفية حكايا امتص زخمها عبر سنين مضت، بينما ترفع رايات التحذير والتخوين لكل عمل يتنسم روحا مغايرة، باحثة ، مدققة، محاكمة، أو حتى غير أبهة بوجوه التاريخ المحنطة، المنتهية على حدود الموت.يستقبل التجريب بعالمنا العربي بكل خفة ممكنة، ليست تلك الخفة الرشيقة المسترخية ، المتسامحة بالطبع ، بل تلك الهازئة ، الوقورة، اللامبالية أو المكفرّة، لأي روح مجددة تلمع في سمائنا المنخفضة حتى الاختناق!
يسود الخوف بدءا من اللغة نفسها.. "اللغة" المنعكس الأكثر صدقا للعقلية السائدة حاليا، إذ اختفت كلمات بكاملها، كالخلق وخلاّق من معجم الصفات التي طالما ألحقت بالنتاج الفني، وحتى أنها لم تعد تترجم بشكلها الحقيقي و الصحيح لغويا، وحل فعل أبدع أو الاسم إبداع بدلا من CREATE أو CREATION المستخدمتين بكثرة وبدون قلق في اللغة الإنكليزية، اختفت صفة مثل معبودي أو معبودتي من قاموس الغزل الحالي ، خوفا من مقاربة البعد الديني للكلمات وليس لسقوط تلك الكلمات أو الصفات جماليا أو اندثارها، بينما كان عنوان فيلم مثل"معبودة الجماهير" في السبعينات من القرن الماضي، يملأ ساحات مصر والوطن العربي دون حرج، والآن للأسف ولم يعد أحدا يتجرا أن يصف أحدا آخر، بنبييّ أو إلهي إلى آخر هكذا كفر ولو على سبيل المزاح..!! بينما يوصف أي شخص بالإنكليزية على أنه أيقونة الموضة،أيقونة الجمال.. وتلصق صفة الأيقونة بأي شخص مهما كانت ميزته و ما يقدمه للمجتمع..!
ثم تطبع شركة مثل ماكنتوش كتابا، وهو دليل لمستخدمي الكمبيوتر تسميه " بماكنتوشBIBLE " على سبيل الاستعارة أو المجاز، الذي لم يعد أحد منا يتجرأ على استخدامهما بحق أي معتقد يشبه أو يماثل لو بقليل، معتقدنا عن الكتاب المقدس أو القرآن الكريم..!
لماذا..؟ لأن فنانينا لا زالوا غير قادرين على التنحي بأفكارهم، وانتاجاتهم عن أوهام إنتمائية، قومية، دينية ، أو أيدولوجية والانتماء للفن وحده، للكون أو الإنسانية، وهو انتماء مجرد من كل تبعية، سوى تبعية الفن، وحتى لو حاولوا فإنهم يقابلون بعواصف عاتية من الرفض والتخوين والإرهاب بالفعل أو بالكلمة..! لم يستطع أي شاعر مهما علت قامته مقاربة نصوص القرآن الكريم أو الحكايا في الكتاب المقدس، فكريا أو فلسفيا أو جماليا، بعيدا عن كون تلك النصوص ، نصوصا "إلهية" إلا بصعوبات بالغة نتجت عنها الهوائل، ويحاكم موسيقي لمجرد الغناء، ويطالب برأس فلان ويهدر دم علان ، ويطلق آخر من زوجته، واللائحة لا تنتهي من التهديد، والرعب بحق شاعر هنا ، وفيلسوف لا أدري أين.. إلى آخر لائحة مفتوحة الأسماء، تجيّر ضد كل من يحاول أن يقف على عتبات جديدة للأسئلة ، ليناقش أو يفكر برؤى مغايرة
وبعيدا عن البعد الديني وحساسية الوضع الآن وسوء الفهم الحاصل، سأركز على المقاربة اللغوية مع العلم أنها غير مفصولة عن المقاربة السيسيولوجية، الكاشفة لكارثية الوضع الفكري، والاجتماعي الحاصلين الآن..! لكني سأكمل بمنحى آخر.. بإمكان أي منتج للفن، في أي بقعة من هذا العالم أن يقدم مقترحات لغوية ، أن يلعب باللغة ويستخدم مفردات ينتجها الشارع، حتى لو كانت مليئة بأخطاء نحوية أو إملائية كلغة الأفروأميركان ،أو الأفرو يوربيان أو الأسبانية المتحدثة في أميركا اللاتينية مثلا، التي باتت بعيدا عن الأدب والشعر، توضع كما هي في معاجم تلك اللغات، أي اللغات الحية بطبيعة الحال! وتمارس تلك الحيل من دون أن يشوب ضمير فاعلها أية شائبة، ومن دون أن تلصق به كل التهم المكفّرة، ومن دون أن يصبح اللغوي أو الأديب " المخرب، الهدام لإرث الشعوب!! بينما بالمقابل يعتذر ويبرر أي روائي لدينا، استخدامه بعضا من اللغة المحكية في نتاجه، حتى لو كانت تلك المحكية نابضة وتحمل كل سمات الروعة، والإيجاز، والاختزال، والموسيقى، ببساطة كل سمات العبقرية!! لغاية الآن لا يعترف للشعر الآخر، أو الشاعر الآخر بقيمته التي يستحق، ويستثنى من مجالس العمالقة، وأقصد طبعا شعراء اللغة المحكية، حيث يذكرون بإعجاب بارد و متحفظ، على الرغم من تجذّر نتاجهم في العقل الجمعي لمنطقتنا الناطقة بالعربية، مشكلين خزان وجدانها الأغنى! وإبعادا لسوء الفهم! "أنا لا أريد بأي حال من الأحوال استبدال اللغة العربية الفصحى بالأخرى المحكية ! لكن أطالب فقط بقليل من المتنفس، لإيجاد فضاء أرحب، وسماء أعلى للتحليق باللغة التي بدأت تنكمش وتتقلص مع تقلص الفضاء المتاح بدل أن تتفجر حياة وغنى..!"
إن السائد الآن، للأسف محاولة جادة لقهر اللغة، وبالنتيجة المخيلة طبعا، عبر معجم كامل يرفد لغة التخويف بمفردات بغاية البلاغة والإقناع ، لغة تقهر المخيلة، بدل إطلاقها في عوالم أكثر تعددية وثراء، بحجة الحرص على ذاك الشبح الذي جمّلناه بكل أرواحنا جهلا حينا، وبرياء ومحاباة للظروف المضطربة حينا آخر، تبنيناه موقفا إلى أن أصبح كالغول البشع، دكتاتوري الهيئة، والفعل، حضناه طويلا كالمعتقد ، إلى أن افترس كل نبض طازج للحياة فينا، مسخ دعوناه الانتماء، الهوية، وكل تلك الصفات التي تسّوق للعزل القصري خارج الحياة، وتدعو للعيش داخل قوقعة أفقها مسدود، وسمائها واطئة، بدعوى الحفاظ على الهوية والانتماء إلى مكان وزمان وتاريخ وقضايا الأمة، وتكريس الماضي بأخطائه، وتبني مفاهيم، وجدت حلولها في الأمس المنصرم، وذلك عبر إجهاض أي حس نقدي تجاه مسائل التراث، التاريخ..
إن إبداء الموافقة الغير مشروطة حول الماضي، هي مفتاح المواطنة والانتماء الحقيقيين في هذه الأمة..! وإلا فإن تهم كالتغريب والتخريب والأمركة ستلاحق أي باحث عن مقترح مختلف لحياة مختلفة..! فأين نحن من الحياة الآن؟! وتحت أي سماء نعيش..؟؟
Blog
4 years ago
No comments:
Post a Comment