تركز هذه المقالة على الحراك السياسي الشعبي على الإنترنت في العالم العربي ومخاطر احتمال التقائه بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة ومصالحها في المنطقة. وتنطلق من فرضية تكاد تكون حتمية بأنّ تدخل راسمي السياسة الخارجية الأميركية وكذلك شركات الإنترنت العملاقة الأميركية، مثل غوغل وتويتر، في حقل النشاط السياسي الشعبي على الشبكة وميدان حرية التعبير على الإنترنت، مضرّ بتلك الحرية وبمستقبل النشاط الاجتماعي الرقمي ذاته
يرمز ما دُرج على تسميته «النشاط الرقمي» (Digital Activism) إلى الحراك السياسي والحقوقي والاجتماعي الذي يستخدم شبكة الإنترنت والوسائط والتطبيقات والخدمات التي تتوافر غالباً بطريقة مجانية وسهلة للاستعمال من طرف النشطاء. وهذه الوسائط هي فضاءات التدوين ومواقع التشبيك الاجتماعي ورسم الخرائط وتقاسم الفيديو والعرائض. وتستخدم من أجل حشد المناصرة و تحسيس الرأي العام حول قضية ما، أو الضغط على صانعي القرار و التأثير على سياسة الحكومات. فـ«النشاط الرقمي» يشترط توفر عامل استخدام تقنيات الاتصال الحديثة على الشبكة العنكبوتية أو الهاتف الجوال أو كليهما معاً من أجل التنظّم أو التحسيس. ولعل الفرق بين «النشاط» و«النضال»، وهو المصطلح الأكثر شيوعاً في تقاليد العمل السياسي، هو عدم انتماء الناشط بالضرورة إلى تيار سياسي أو إيديولوجي ما، فهو «ينشط» خارج الأطر والهياكل الحزبية والتنظيمية والمنظماتية.
و قد أعرب الكثيرون من خارج الولايات المتحدة، وليس فقط في العالم العربي، عن قلقهم من «تعويذة» حرية الإنترنت التي صارت تنبعث من الدوائر السياسية بواشنطن. واعتبروا هذه التعويذة مجرد غطاء لأجندة جيو ـــــ استراتيجية تسعى من خلالها أميركا، تحديداً، إلى اختراق شبكات الاحتجاج السياسي والاجتماعي الناشطة على شبكة الإنترنت. فالسياسة التي لقبتها وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون بـ«حرية الإنترنت»، و وضعتها في أعلى سلم أولويات السياسة الخارجية لإدارة الرئيس باراك أوباما خلال خطابها بداية هذه السنة، لن تطبّق في فراغ. فهي ستُبنى أولاً على قاعدة السياسة الخارجية العامة والعريقة للولايات المتحدة، تطبق أهدافها وتعمل على حماية مصالحها الحيوية. فالمساعي التي تبذلها أميركا والحكومات الغربية عموماً كي تكون طرفاً فاعلاً، بل رئيسياً، في مجال الدفاع عن حرية مستخدمي الإنترنت في الوصول إلى المعلومة وإيصالها، لن تمثل تهديداً واقعياً و مباشراً فقط للنشطاء الذين يقبلون دعمها وتمويلها، بل سيكون لها أثر على طبيعة النشاط الرقمي العربي ذاته وتوجهاته. وبات العديد من المدونين يعتقدون (من الصين إلى المغرب العربي، مروراً بإيران و روسيا) بأنّ مساعي التسييس الجامح للمدونات والنشاط التدويني ومحاولات الركوب على بعض نجاحاته لتحقيق أهداف جيوسياسية، هي «قبلة الموت» التي تهدد شرعيتهم على الميدان. أسوأ الحالات هي أن يؤدي التمويل الغربي لمبادرات المدونين والنشطاء الرقميين، وكذلك التسييس المفرط لفضائهم، إلى تشويه الأنشطة الرقمية القائمة وظهور «نشاط رقمي مواز» يتجاهل السياق المحلي للمنطقة العربية وتعقيداتها. هذا إلى جانب النفاق والكيل بمكيالين اللذين صارا يميزان حركة مناصرة حرية التعبير على الإنترنت في دفاعها عن السجناء من المدونين ومقاومة سياسات الحجب والرقابة التي تمارسها الأنظمة. فأصبح هناك استهداف مفضوح وسافر لإيران والصين وكأنّهما الدولتان الوحيدتان اللتان تبطشان بالشبكة و بحقوق مستخدميها.
إنّ وضع حرية الإنترنت في صلب الاستراتيجية العامة للسياسة الخارجية الأميركية تحت مظلة البراغماتية النفعية التي عودتنا عليها واشنطن لن يقود الولايات المتحدة إلى المخاطرة بـ«استقرار» النظام القمعي العربي الذي يرعى مصالحها. فمن غير الواقعي أن نتوقع من أميركا أو من أي حكومة غربية أخرى أعلنت «حربها الإلكترونية» على سياسة الحجب، أن تعمل فعلياً على دعم المعارضات السياسية ضد حلفائها العرب بالقدر الذي تفعله أو تسعى إليه ضد إيران والصين. ولأنّه لا يمكننا تحمل عواقب «قرصنة» قضية حرية التعبير على الإنترنت من قبل قوى تخدم أجنداتها الجيو ـــــ استراتيجية، وغالباً لا تصبّ في مصلحتنا، وجب علينا الوعي بهذا «الواقع الافتراضي» الجديد والاجتهاد في تفكيك فاعليه وجس ديناميكياته.
وهناك آثار جانبية عديدة سيفرضها الواقع الجديد على ميدان الحركة العالمية المدافعة عن حرية التعبير والوصول إلى المعلومة على الشبكة. منها أنّ كل جسر يُبنى بين الحكومة الأميركية ومراكز الأبحاث ومنظمات المجتمع المدني الأميركي سيؤدي إلى تدمير عدد من الجسور القائمة التي تربط هذا الأخيرة بالناشطين والمدونين من العالم العربي والشرق الأوسط. وما لم تتغير ديناميات السياسة الخارجية الأميركية، ولا سيما في أشكال تعاملها مع «الدكتاتوريات العربية الصديقة»، سوف يُنظر إليها دائماً على أنّها سياسة منافقة تختفي وراء شعار حرية الإنترنت الفضفاض خدمة لمصالحها أو لمجرد الاستهلاك الإعلامي المحلي.
إذاً الأخطار المحدقة بحقل النشاط الرقمي العربي كبيرة، و خصوصاً في مرحلة نموّه الفتية الحالية، وتحتاج بالتالي إلى المناقشة والمعالجة. وما هذه إلا محاولة متواضعة لفهم رقعة الشطرنج الجديدة التي أطلقت عليها الولايات المتحدة الأميركية لقب «فن الحكم في القرن الـ21» وموقع الحراك السياسي الرقمي العربي منها.
النشاط الرقمي قوة فاعلة من أجل التغيير
ملأت حركة النشاط الرقمي السياسي القاعدي العربي الفجوة التي تركتها وسائل الإعلام التقليدية ومنظمات المجتمع المدني في معالجتها لقضايا حقوق الإنسان والمواطنة. ففرضت نفسها، على الرغم من تراوحها بين النجاح والفشل، كقوة فاعلة من أجل التغيير، تصقل جزءاً لا يستهان به من الرأي العام، وخاصة داخل الأوساط الحضرية الشابة والمتعلمة والمتصلة بالشبكة العنكبوتية. وهي تنمو في فضاء إلكتروني يبدو أكثر ملاءمة لمراوغة و مقاومة لعين الرقابة الحكومية. وهذه الأخيرة نجحت إلى حد كبير في السيطرة على الوسائل التقليدية للتنظيم والإعلام والاتصال عبر تكميمها أو تدجينها. هكذا تمكن النشاط الرقمي العربي من إدخال ديناميكية جديدة أربكت الحسابات القديمة للأنظمة والمجتمع المدني على حد سواء عبر مبادرات عدّة. منها تلك الرقمية المنددة بالتعذيب والتحرش الجنسي في مصر التي نجحت في فرض هذه القضايا على أجندة الإعلام التقليدي وسلك القضاء البعيدة عن الخوض فيها لأسباب عدة ترجع أغلبها إلى تبعيّة هذه القطاعات وضعفها. كذلك مبادرات فضح ممارسات الرشوة التي تنهش جسم الشرطة المغربية والتي انتهت بدفع الحكومة إلى التحقيق في الموضوع وفصل رجال الشرطة المتورطين، وصولاً إلى مبادرات التنديد بآلة الحجب التونسية التي نجحت إلى حد كبير في جعل قضية الدفاع عن حرية التعبير والوصول إلى المعلومة وإيصالها من هموم المُتصفح التونسي العادي وغير المسيس، منهية بذلك استفراد الأحزاب السياسية المعارضة والمنظمات الحقوقية بهذا النشاط الحقوقي ـــــ السياسي.
تجدر الإشارة إلى أنّ أغلب مبادرات المناصرة الناجحة للنشاط العربي السياسي والحقوقي الشعبي على الإنترنت لم تكن مموّلة من أي جهة حكومية غربية أو من المنظمات الأهلية التابعة لها. وذلك على عكس بعض المبادرات الرقمية الحالية التي ظهرت بفضل دعم و رعاية من جانب الولايات المتحدة و وكلائها. إذ يتميز الجيل الأول، أي اللامُموّل وغير المرتبط خارجياً، من المبادرات الرقمية المحلية بالخصائص الآتية:
1 – الضرورة: لم يكن الدافع وراء استخدام أدوات الاتصال الحديثة من أجل الدفع بعجلة التغيير الاجتماعي والسياسي والحقوقي هو المصلحة أو الارتزاق الإعلامي والمالي. فعلى العكس، كانت تلبية لاحتياجات واقعية أفرزها التزام راسخ بالدفاع عن حقوق الإنسان في العالم العربي. وما تلك الاحتياجات إلا نتيجة مباشرة لبيئة استبدادية قائمة و صلبة تتميز بانعدام الفضاءات المفتوحة التي يمارس فيها النشطاء دورهم المواطني. فكان اللجوء إلى النشاط الرقمي لما يوفره من سهولة وسرعة وغياب شبه كامل للتكلفة المالية.
2 – الاستقلال: يعدّ حقل النشاط الرقمي في العالم العربي من أكثر الحقول لامركزية وتشتت وحيوية. هذا ما يجعله ممانعاً لمحاولات الاختراق والتوظيف من قبل المنظمات غير الحكومية وأحزاب المعارضة العربية، حتى تلك المتمرسة على تقنيات الاتصال الحديثة. فاستقلاليته جعلت منه كياناً جذاباً ومقاوماً في الوقت نفسه لكل أنواع الرقابة الحكومية أو التوظيف المسيّس للمعارضة. لكن صفة الاستقلال تلك لا تعني بالضرورة عزل هذا النشاط الرقمي عن محيطه. فعدد من النشطاء الرقميين في العالم العربي يتعاونون مع أحزاب المعارضة السياسية ومنظمات المجتمع المدني خلال الفترات الهامة والحرجة، كالمحطات الانتخابية والانتكاسات الحقوقية. ومعظم هؤلاء النشطاء مرتبطون أيضاً بعضهم ببعض عبر ديناميكيات تشبيك مزدوج، بعضه على الإنترنت وبعضه الآخر على الأرض. فهم يتعاونون في ما بينهم خلال الأحداث الكبرى التي تشهدها المنطقة، (كقضية غزة والحرب الإسرائيلية على لبنان سنة 2006). كما ينسقون في ما بينهم عمليات الحشد والمناصرة لحملاتهم الإلكترونية كحملات المطالبة بإطلاق سراح المدونين المعتقلين. إلى جانب كل هذا، يرتبط النشاط الرقمي العربي بحركة النشاط الرقمي العالمي من خلال المؤتمرات والورشات التدريبية. أضف إلى كلّ هذا القدرة الذاتية التشبيكية الهائلة التي يتميز بها الإنترنت وخاصة مواقع الشبكات الاجتماعية. خلاصة القول إنّ النشاط الرقمي العربي، يفعل ويتفاعل في سياق متعدد الطبقات، بعضها محلي وقطري وبعضها الآخر قومي وعالمي.
3 – التعقيد: للوهلة الأولى، يبدو النشاط الرقمي حقلاً بسيطاً وسطحياً، إلا أنّنا إذا ما تفحصناه عن كثب سرعان ما تبرز لنا تعقيداته الخفية. فهو يختلف من بلد إلى آخر، ويطوّر وسائله وتقنياته تكيفاً مع محيطه المتحرك وتعقيدات الاستراتيجية الحكومية العربية للسيطرة على الشبكة وتطويعها باسم محاربة الإرهاب والمحافظة على الأخلاق العامة.
كلّ هذه الخصائص جعلت من النشاط الرقمي العربي عرضة لعدد من التحديات. فاستقلاليته قد تؤدي إلى استفحال أزمة هيكلية ومالية باتت تهدد مستقبله، وهي تعود بالأساس إلى غياب مصادر التمويل والدعم المحلي العربي والمستقل للنشاط الرقمي. ففي ظروف كهذه، يعتمد أي نشاط رقمي مستقل كلياً على العمل التطوعي والخيري للناشطين وتبرعاتهم البسيطة. وبالتالي، لن يصمد أمام أساليب الحجب والرقابة المتطورة التي باتت تستخدمها الحكومات العربية الراغبة في السيطرة على ما يُنشر على الشبكة. فضرورة تطوير تقنيات مراوغة الحجب والرقابة، وكذلك تقنيات تأمين مواقع المبادرات الرقمية ضد القرصنة والتخريب التي تستهدفها، تتطلب مقاربة محترفة تتوفر فيها الموارد المالية من جهة، والإلمام المعرفي والتطبيقي بالتقنيات الحديثة من جهة أخرى. فلا يمكن استراتيجيات بدائية ومُبتدئة صُمّمت لمقاومة الحجب والرقابة والقرصنة أن تصمد أمام عزم وبطش شرطة إنترنت الحكومات العربية المزودة بالمال والعتاد والخبرة المتقدمة. فالقدرات الأمنية والتقنية لناشطي الإنترنت العرب لمواجهة التحديات الجديدة محدودة، إن لم نقل منعدمة تماماً. أما تقنيات التشفير والتدابير الأمنية و الوقائية فهي غير مجدية عندما يتم سحب كلمات السر والبيانات الشخصية الحساسة من المدونين والنشطاء تحت التعذيب، كما يحدث في مصر والبحرين وغيرها من البلدان العربية. ومن ناحية أخرى، فإنّ تعقيد ظاهرة النشاط السياسي الشعبي العربي على الشبكة العنكبوتية جعل من الصعب على الفاعلين الأجانب والدوليين المعنيين بدعم النشاط الرقمي رسم سياسات تأخذ تعقيدات وخصوصيات كل بلد من بلدان المنطقة بعين الاعتبار عند صياغة أو تنفيذ برامج غالباً ما تستهدف المنطقة بأسرها وكأنّها حقل تجارب.
هذه الخصائص التي رافقت النشاط الإلكتروني العربي منذ نشأته باتت على وشك أن تتغير تحت وطأة التدخل الأجنبي الذي يهدد استقلاليتها. فالسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: كيف نتغلب على هذه التحديات المتعددة الأوجه دون المساس باستقلالية وحياد نشاطنا الرقمي العربي وحمايته من أيادي التوظيف والتدخل الأجنبي؟
بقدر ما يزداد استهلاك شعار «حرية الإنترنت» و«النشاط الرقمي» من الساسة والإعلاميين الغربيين وتوظيفه في إطار «نظريات التغيير» السياسي والاجتماعي، يتزايد إنفاق الأموال الغربية على هذا الحقل. وقد مثّل ذلك فرصة ثمينة وغير مسبوقة لعدد من المنظمات غير الحكومية ومصممي ومروّجي برمجيات تجاوز الحجب والرقابة الإلكترونية للدفع بأجندة سياسية أميركية المحور، وقنص مصادر تمويل إضافية جديدة.
فالتكاثر غير المسبوق للمنظمات غير الحكومية ومراكز الأبحاث التي تتنازع في ما بينها من أجل الفوز بقطعة من «كعكة التمويل» الغربي، سيساعد على اضمحلال الخصوصيات الذاتية الأصيلة للنشاط. فآليات التمويل وإجراءاته البيروقراطية ستلقي بظلالها على الناشط الرقمي، محوّلة إياه إلى «بيروقراطي صغير» همه كتابة طلبات التمويل والتقارير. بل إنّها ستفرز نوعاً جديداً من «النشطاء المرتزقين»، غايتهم «تجارية» بحتة تُساير رغبات الممولين وإملاءاتهم وتقايض المال بنشاط مزيف، فاقد لاستقلاليته وهي قوام شرعيته. فحساسية التمويل الأجنبي للنشاط المدني والاجتماعي في منطقة مثل منطقتنا العربية مهمة إلى درجة أنّها تنزع الشرعية تقريباً عن كلّ مبادرة تسقط في فخ التمويل. فالمبادرات الرقمية الممولة محلياً والقائمة على قاعدة التطوع والعمل الخيري هي الأكثر نجاحاً والأبلغ صدى في حشد التأييد الشعبي لها.
أما تلك المبادرات الرقمية الجديدة والهجينة التي يرعاها أو يفرزها التمويل والدعم الحكومي الأجنبي فهي الأقل نجاحاً واستقطاباً للدعم المحلي. وهي أقرب إلى «التسويق السياسي» منها إلى النشاط، إذ يطغى عليها التركيز على المواضيع والمقولات الجاذبة للإعلام والانتباه الغربي كالشباب والمرأة والحرية الجنسية وحقوق الأقليات والمثليين والحوار بين الأديان والحضارات. وهي مبادرات تهيمن عليها اللغة الإنكليزية على حساب اللغة المحلية، محتواها بارد وشعاراتها فضفاضة. وتتميز هذه المبادرات الرقمية الممولة أجنبياً أيضاً بصلابة وتعدد قنوات تواصلها مع الغرب ووسائل إعلامه الكبرى ومباركة المنظمات الحكومية وغير الحكومية لها على حساب تجذرها في العمق المحلي وضعف قنوات اتصالها الجماهيرية القاعدية. فالنشاط الرقمي الذي لا ينشأ تلبية لاحتياجاته المحلية ليس سوى تجارة تتخذ من ظاهر النشاط وتقنياته الرقمية طُعماً لصيد التمويل والشهرة.
فبين قمع الأنظمة العربية من جهة، والتوظيف السياسي والإعلامي الغربي، يمر النشاط الإلكتروني العربي، وكذلك حركة الدفاع عن حرية التعبير على الإنترنت، بواحدة من أكثر المراحل خطورة والتي قد تؤدي إلى تغيّر جذري لديناميكياتها وأدائها. فبدون فحص وتفكيك السياق الجديد الذي يمر به الحراك الرقمي والتدويني العربي يصعب التنبؤ بدقة بعواقب هذا التوظيف والتدخل الأجنبي على طبيعة هذا الحقل الجديد. فعدد المؤتمرات وورشات العمل التدريبية التي تنظمها المنظمات غير الحكومية الأميركية والغربية بتمويل وبمباركة رسمية مستهدفة المدونين والناشطين العرب والإيرانيين والصينيين، قد تنامت على نحو لافت للانتباه حتى إنّها صارت تقلق حكوماتنا القمعية التي باتت تترصد تحركات المدونين داخل الحدود وخارجها.
السياق جديد
خلال خطابها «ملاحظات حول حرية الإنترنت» الذي ألقته في 21 كانون الثاني 2010 في واشنطن، رفعت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون حرية الإنترنت إلى مستوى محوري في صلب السياسة الخارجية لإدارة الرئيس أوباما. وقالت «أعلن اليوم أنّه خلال السنة المقبلة سوف نعمل مع شركاء من القطاع الصناعي، ومن الميادين الأكاديمية، والمنظمات غير الحكومية من أجل إنشاء جهد دائم يستعمل قوة تكنولوجيات الاتصال ويطبقها على أهدافنا الدبلوماسية». وقبل شهرين من ذلك الخطاب، في تشرين الثاني 2009، أعلنت كلينتون مبادرة «المجتمع المدني 2.0» التي تهدف إلى مساعدة المنظمات الشعبية في جميع أنحاء العالم من أجل استخدام التكنولوجيا الرقمية والحديثة. خصصت المبادرة 5 ملايين دولار لتمويل البرامج الرائدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي من شأنها تعزيز وسائل الإعلام الجديدة وإمكانات التشبيك بين منظمات المجتمع المدني.
ومن المؤكد أنّ الولايات المتحدة ليست الدولة الوحيدة التي أعلنت رسمياً تبني مقولة حرية الإنترنت ودمجها بالسياسة الخارجية العامة. فقد أعرب عدد من الحكومات الأوروبية أيضاً عن نفس النوايا ولو بدرجات متفاوتة. فعلى سبيل المثال، أعلنت كلّ من هولندا وفرنسا برنامجاً مشتركاً يهدف إلى ضبط «قواعد سلوك» لسياستهما الخارجية تحمي بمقتضاه حرية الإنترنت. وسيعقد لقاء على مستوى وزراء خارجية البلدين في أواخر هذا الشهر من أجل رسم سياسة دعم «المنشقين إلكترونياً» (cyber dissidents)، وهي صفة تطلق على المعارضين السياسيين الذين يركزون نشاطاتهم المعارضة على شبكة الإنترنت وفضاءات التدوين ومواقع التشبيك الاجتماعي. وكان وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير قد صرح خلال لقاء تحضيري عقد في باريس: «يتعين علينا مساندة المعارضين الإلكترونيين بنفس الطريقة التي ساندنا فيها المعارضين السياسيين».
وعلاوة على ذلك، فقد نمت بين شركات الإنترنت الأميركية العملاقة على غرار غوغل وياهو وتويتر، قناعة بأهمية مقولة «حرية الإنترنت» إذ غالباً ما تقاطعت مصالحها الاقتصادية مع جهود ومصالح الإدارة الأميركية. وتعمل شركة غوغل حالياً مع الولايات المتحدة ومسؤولين أوروبيين للدفع بسياسة من شأنها أن تجعل من الرقابة على الإنترنت حاجزاً للتبادل التجاري. فمنذ توتر علاقة الشركة بالصين، صارت غوغل من أكبر الشركات صخباً حول حرية الإنترنت. وقال مدير الاتصالات السياسية في غوغل بوب بورستين، الذي شغل منصب محرر خطابات بإدارة الرئيس كلينتون: «هدفنا هو تحقيق أقصى قدر من حرية التعبير والوصول إلى المعلومات [...] إنّه جزء هام جداً لأنشطتنا التجارية».
المسألة الأخرى المثيرة للقلق هي تلك العلاقة الوطيدة والمتشابكة بين دوائر صنع القرار بواشنطن ومديري شركات الإنترنت الأميركية. فعدد لا بأس به من مسؤولي وزارة الخارجية كانوا قد اشتغلوا سابقاً في شركات الانترنت، على غرار أربعة من مديري غوغل الذين ذهبوا للعمل مع إدارة الرئيس أوباما. وآخر مثال على هذا هو جاريد كوهين، «التكنوبراغماتي» (technopragmatist) والاختصاصي في مجال استخدام التكنولوجيا لتعزيز مصالح الولايات المتحدة ومكافحة الإرهاب والتطرف. فقد شغل منصب وزير دولة للتخطيط في كلّ من إدارتي جورج بوش وأوباما، ثم ترك وظيفته بوزارة الخارجية لقيادة قسم جديد ستطلقه شركة غوغل قريباً ويدعى «غوغل أفكار». وجاريد كوهين هو نفس الشخص الذي تدخل في حزيران 2009، مطالباً شركة التدوين المصغر «تويتر»، بتأجيل صيانة الموقع المبرمجة إبان الاضطرابات التي شهدتها إيران عقب انتخابات يونيو 2009. وكان ذلك من أجل منح معارضي أحمدي نجاد مزيداً من الوقت لاستعمال تويتر لتنظيم التظاهرات الاحتجاجية. فيعتقد جاريد كوهين وغيره ممن يُطلق عليهم لقب «متفاؤلو التكنولوجيا»، أنّ تويتر أدى دوراً وصفوه بالرئيسي في احتجاجات إيران الأخيرة، ما حدا بالبعض إلى الترويج لنظرية «ثورة تويتر» (Twitter Revolution). فبالنسبة إلى هؤلاء، بما فيهم إدارة الرئيس أوباما، مثلت احتجاجات 2009 بإيران أول منعطف تاريخي عالمي كبير أثبت قدرة التكنولوجيا الحديثة على مواجهة الرقابة والقمع الحكومي. وقد انعكس ذلك بوضوح في خطاب كلينتون حول حرية الإنترنت فذكرت خلاله إيران سبع مرات.
وتتطلع «تويتر» أيضاً إلى استئجار منسق حكومي في واشنطن، مهمته مساعدة الشركة على فهم ما يجب القيام به من أجل «تقديم خدمة أفضل للمرشحين وصناع القرار» بأميركا ورسم الاستراتيجيات الدولية للشركة. وفي 9 تموز 2010 انضمت كاتي ستانتون التي كانت تعمل لحساب غوغل في سنة 2003 ولحساب إدارة الرئيس أوباما في سنة 2009 كمسؤولة في هذا القسم الجديد.
وهذا ما عبر عنه كوهين جاريد عندما كان يشغل منصبه الوزاري، فقال خلال حديثه عن استخدام الوزارة للتكنولوجيات الجديدة في ممارسة الدبلوماسية: «كل جامعة وكل شركة من القطاع الخاص هي في الواقع شريك استراتيجي للإدارة الأميركية في مجال التكنولوجيا والابتكار وكيفية تطبيقها لخدمة سياستنا الخارجية».
وكما قلنا آنفاً، يتميز السياق الجديد للحراك السياسي على الإنترنت في العالم العربي وفي منطقة الشرق الأوسط عموماً باهتمام شديد من المؤسسات الحكومية الأميركية والمنظمات غير الحكومية التي تمولها، وكذلك من مراكز البحوث والجامعات وشركات الإنترنت العملاقة. وفي هذا الإطار قدم العديد من النشطاء والمدونين العرب والإيرانيين مساعدة جمة لمراكز البحوث تلك، مثل مركز بيركمان للإنترنت والمجتمع بكلية الحقوق بجامعة هارفرد. فساعدوا على فهم وترجمة ورسم خرائط للمدونات العربية وموقعها على الإنترنت، ما أفاد المركز كثيراً في عمله التحليلي لمحتوى المدونات العربية والإيرانية. أوضح مثال على هذا التنسيق بين النشطاء والمدونين العرب والإيرانيين من جهة، ومراكز البحوث الجامعية الأميركية من جهة أخرى هو خريطتا المدونات الإيرانية والعربية التي صمّمها جون كيلي وبروس ألتينك اللذان يديران مبادرة «الإنترنت والديموقراطية» التابعة لمركز بيركمان للانترنت والمجتمع. وترعى المبادرة وزارة الخارجية الأميركية من خلال منحة قدرها 1.5 مليون دولار قدمتها مبادرة الشراكة الشرق أوسطية التي تأسست في عهد الرئيس بوش الابن.
وإذا ما فحصنا الإطار العام الذي سيقت فيه هذه الدراسة وخريطة المدونات العربية والإيرانية والمصطلحات المستعملة، فسنلاحظ تركيزاً جلياً ومفرطاً لفهم واستكشاف الموقع الذي يحتله «المتطرفون» و«الإرهابيون» و«الإسلاميون» و«المحافظون» و«العلمانيون» في فضاء المدونات العربية والإيرانية. ولقد اعترف جون كيلي خلال ردّه على بعض الانتقادات التي وجهها عدد من المدونين العرب للخريطة: «كنا نكتب شيئاً ستقرأه الدوائر السياسية بالعاصمة واشنطن، ومن الطبيعي أننا لجأنا، في بعض أجزاء الدراسة، إلى استخدام لغة ترتبط بالنقاش كما يدور هناك». كيلي، مهندس رسم خرائط المدونات، وإيفان سيغل، المدير التنفيذي لمنظمة «أصوات عالمية»، وهي أهم منظمة تُعنى بتتبع ما ينشر على المدونات العالمية وترجمة محتواها إلى أكثر من عشرين لغة، كانا قد شاركا في مؤتمر نظمه معهد السلام الأميركي في 8 كانون الثاني 2009، إلى جانب قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال ديفيد بترايوس وغيره من المسؤولين الأمنيين والعسكريين. وكان من بين مهمات المؤتمر، التعرف على دور وسائل الإعلام الاجتماعي والإلكتروني وكيف يمكن استغلال هذا الدور من أجل إيجاد «حلول غير عسكرية» للتحديات التي تواجهها السياسة الخارجية في منطقة الشرق الأوسط الكبير. وخلال حديثه عن رسم وتحليل شبكات المدونين العرب والإيرانيين وأهمية هذا العمل بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية، أكد كيلي ضرورة «تنمية وصقل هذه الشبكات عندما تكون صغيرة، لأنّها تنمو بسرعة كبيرة جداً». لاحقاً، أصدر مجلس الشيوخ الاميركي قانون «ضحايا الرقابة الإيرانية» ( Victims of Iranian Censorship Act) الذي خصص 20 مليون دولار لمساعدة النشطاء الإيرانيين على مكافحة وتجاوز الرقابة على الإنترنت وتدريبهم على تقنيات تبادل ونشر المعلومات على الشبكة. علّق حينها روب فاريس وهو مدير الأبحاث في مركز بيركمان للانترنت والمجتمع «ها قد دخلتم جبهة الحرب الإلكترونية إلى جانب الأخيار». وهذا يبرز هيمنة مخيلة «الحرب الباردة» على عقول هؤلاء الباحثين والساسة، ومن ثم إسقاطها على حقل الحراك السياسي على الإنترنت الذي يراد منه أن يكون جبهة حرب جديدة تضاريسها إلكترونية ومعلوماتية موجّهة ضد حزمة من الأنظمة الاستبدادية التي لا تساير السياسات التوسعية الأميركية. وكذلك يفضح أيضاً مدى اختراق دوائر صنع القرار السياسي الأميركي وأجهزتها الاستخبارية والعسكرية لمراكز البحوث الأكاديمية وتوظيفها لنتاجها المعرفي خدمة لمصالح أميركا الحيوية في العالم.
فالتطور الأكثر مدعاة للقلق هو أن توضع المعرفة والبيانات حول الشبكة العنكبوتية العربية أو الإيرانية والصينية والروسية، بين أيدي الساسة والعسكر ورجال الأمن والاستخبارات دفعاً بالمصالح الأميركية أو دقاً لطبول «الحرب الإلكترونية» الجديدة التي ينادي لها منظّرو المحافظين الجدد. وتجمع هذه المعلومات غالباً بفضل تنسيق تطوعي وخيري بين نشطاء الإنترنت والمدونين المحليين ومراكز البحوث والمنظمات غير الحكومية الأميركية. وكلّ خطوة تخطوها منظمات المجتمع الأهلي الأميركي ومراكز البحوث والدراسات في اتجاه الحكومة الأميركية ستقود في نهاية المطاف الى اضعاف موقع هذه المنظمات بين أوساط ناشطي الإنترنت والمدافعين عن حرية التعبير على الشبكة العنكبوتية.
ولعل من أبرز وأخطر الأمثلة ذات الصلة بالتسييس المفرط لفضاء التدوين العربي والإيراني على حد سواء وتوظيف نضالاته لخدمة مصالح الغرب وإسرائيل، تتمثل في مبادرة «المنشقون الإلكترونيون» أو cyberdissidents.org. تسوّق المبادرة نفسها على أنّها حليفة قوى الإصلاح والديموقراطية الناشطة على الشبكة العنكبوتية الشرق أوسطية. وتقول «إنّ المدونين والمعارضين السياسيين الذين يستعملون الإنترنت في دول الشرق الأوسط الاستبدادية يتعرضون لأخطار جمة. ونحن نعتقد أنّ للغرب واجباً أخلاقياً في الدفاع عن هؤلاء المعارضين الشجعان الذين هم أكبر حليف لنا». وقد وصفت السفيرة الأميركية السابقة لدى الاتحاد الأوروبي، كريستين سيلفربيرغ هذه المبادرة بأنّها «المنظمة الرائدة في العالم المكرسة أساساً للدفاع عن المعارضين الديموقراطيين المستخدمين للإنترنت». وعلى الرغم من الضجيج والتغطية الإعلامية التي حظيت بها هذه المبادرة ولا سيما في واشنطن فقد التزم الجميع الصمت حيال من يقف وراءها. فالمبادرة هي من صنع ساسة إسرائيليين وصهاينة وأميركيين لهم خبرة عريقة في مجال مكافحة الإرهاب ولهم صلة وثيقة بالأجهزة الأمنية والاستخبارية في كلّ من الولايات المتحدة وإسرائيل، وهم إلى الآن أعضاء في مجلس إدارتها. المشروع ذاته هو مبادرة من مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات التابعة لمعهد أسّسه المحافظون الجدد في واشنطن بعد يومين فقط من هجمات 11 أيلول 2001. و من بين أعضاء إدارة مبادرة «المنشقون الإلكترونيون» التي تستهدف «الدفاع» عن المدونين العرب والإيرانيين نجد ناتان شارانسكي الذي شغل عدّة مناصب وزارية في حكومات الليكود الإسرائيلية. أما مدير مبادرة CyberDissidents.org فليس سوى ديفيد كييس المساعد السابق لسفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة والذي تقلد مناصب رفيعة في شعبة الاستراتيجيا التابعة للجيش الاسرائيلي.
من أجل أن يحقق الحراك السياسي الرقمي العربي أهدافه النبيلة يجب عليه المحافظة على استقلاليته والتمسك بعمقه المحلي. كما يجب ان يسعى إلى الحصول على الدعم المالي واللوجستي في الإطار الشعبي القاعدي عوض اللجوء إلى «السيولة السهلة» الآتية من وراء البحار والحاملة في طياتها أجندة سياسية وإيديولوجية ضارة بقوى الإصلاح في المنطقة. وهذا بالطبع لا يعني قطع جسور التواصل مع التجارب النضالية الرقمية العالمية التي نحن بأمسّ الحاجة لفهمها والتفاعل معها والتعلم منها. فوسط هذه الهجمة الغربية الساعية إلى الاستفادة من نضالات شبابنا وإغرائنا، بل إغراقنا في لجّة من لأموال و الأعمال المشبوهة، نحن بحاجة ماسّة لتشكيل وعي جماعي مقاوم. وعي يناهض كلّ مساعي القرصنة لقضايانا وهمومنا المواطنية من قبل الحكومات الغربية والمنظمات «غير الحكومية» الدائرة في فلكها والمسبّحة بحمدها. الوعي بمخاطر تسييس فضائنا العنكبوتي العربي من قبل هذه الأطراف الدخيلة هو بمثابة أول خطوة نخطوها من أجل الحفاظ على شرعية عملنا النضالي على الإنترنت، ومن أجل ألا نقايض الصلة الحميمة مع واقعنا المحلي بقبول ساذج لتمويل ودعم ملونين إيديولوجياً بألوان خدعة «حرية الإنترنت» الزاهية. وإذا كانت الولايات المتحدة والحكومات الغربية الأخرى تريد حقاً دعم حرية الإنترنت فينبغي عليها أن تبدأ بحظر تصدير برامج الرقابة والحجب التي تستعملها شرطة الإنترنت في الدول العربية، التي هي بالأساس أميركية الصنع والتسويق.
Blog
4 years ago
No comments:
Post a Comment